تحفل المكتبات ودور النشر بالمؤلفات التي تناولت التاريخ الأميركي سواء بالتركيز على مرحلة بعينها، أو بتقديم عرض شامل للتجربة الأميركية منذ انطلاقتها على أيدي المستوطنين الأوروبيين وإلى غاية اليوم، وفي كل مرة نقرأ فيها التاريخ الأميركي تعود العناوين نفسها إلى الظهور مثل الآباء المؤسسين والتوسع غرباً والحرب الأهلية ثم الصراع بين القوى الغربية الأخرى في القارة الأميركية وطرد الفرنسيين من بعض الولايات، لكن في كل ذلك نستشعر كقراء وربما كباحثين في التاريخ الأميركي غياباً واضحاً للفرد العادي، أو المهاجر القادم لتوه من وراء البحار. هذا التاريخ غير المروي، أو المسكوت عنه يسعى الكتاب الذي نعرضه اليوم بعنوان "أميركا، إمبراطورية الحرية: تاريخ جديد"، للمؤرخ البريطاني وأستاذ التاريخ بجامعة كامبريدج "ديفيد راينولدز"، إلى كشف بعض جوانبه وتقديم قراءة مغايرة لما اعتاده القراء. فالكتاب صيغ بطريقة سلسة تجتذب القارئ العادي وإن كان يعكس في الوقت نفسه تياراً جديداً في التأليف التاريخي بالولايات المتحدة بدأ في الجامعات الأميركية منذ التسعينيات ويحاول تجديد قراءة التاريخ الأميركي وإثارة بعض الأسئلة حول فرضيات أصبحت لكثرة ترديدها في الكتب وكأنها مسلمات ثابتة لا يرقى إليها الشك. وهكذا يبدو التاريخ الجديد الذي يندرج في إطاره الكتاب مخلخلاً للمفاهيم التي استقرت طيلة الفترة السابقة في الوعي الأميركي، منبهاً على سبيل المثال إلى غياب التاريخ الاجتماعي للشرائح الأوروبية التي استوطنت أميركا خلال المراحل الأولى واقتصار الرواية التاريخية على مجموعة الرجال البيض الذين تتكرر أسماؤهم في كتب التاريخ. فحسب هذا التصور يتحول الأميركيون العاديون الذين كابدوا المخاطر وتحركوا غرباً لتعمير الأراضي الشاسعة في وسط وغرب أميركا، كما يقول التاريخ الرسمي، إلى مجرد شخصيات ثانوية تؤثث المشهد العام لكنها لا تؤثر فيه، أو تساهم في صنعه. فإذا كان التاريخ ينتمي إلى مجموع الأفراد وأحداثُه تصنعها الشرائح الواسعة من الشعب، فإنه يبقى في التجربة الأميركية حكراً على الرجال البيض البروتستانت لتتراجع صورة المرأة مثلا إلى الخلفية وليبق السود أيضاً مجرد أقنان يعملون في الأرض دون وجود منظور. للخروج من هذه الدائرة المغلقة التي تنتج التاريخ نفسه يقترح الكاتب تغيير المنهج المتبع من خلال تجاوز التأليف التاريخي الحالي والبحث عن صورة مغايرة للأميركي، ليس من خلال ما أشارت إليه الكتب، بل بالانكباب على الوثائق التاريخية وإعادة قراءتها. فالتاريخ الأميركي الذي ينتقده الكاتب هو ذلك الذي يركز على الناجحين، أو الشخصيات البارزة التي أبرزتها الكتابات التاريخية لتتوارى إلى الخلف الحركات الاجتماعية والتناقضات الاقتصادية والعرقية التي حركت فعلاً عجلة التاريخ الأميركي. فالتعمير على سبيل المثال الذي تذكره كتب التاريخ التقليدية على أنه مسوغ الزحف غرباً لا يمكن فهمه، حسب القراءة التاريخية الجديدة التي يقترحها الكاتب، دون الإشارة إلى مصادرة أراضي السكان الأصليين وتهجيرهم إلى تخوم الغرب الأميركي المقفر، وكأن دخول جماعة بشرية حلبة التاريخ، وهم في حالتنا هذه البيض المهاجرين، يستدعي بالضرورة خروج فئة أخرى من مسرح التاريخ، كما أن إغداق الخطاب البطولي على المغامرين ومستكشفي الغرب إنما يأتي على حساب معاناة السكان الأصليين الذين يوضعون في خانة البرابرة المتوحشين. وهنا يبرز، كما يقول المؤلف، تناقض الرواية التاريخية وعدم تماسك استنتاجاتها، فمن ناحية ينفي التاريخ الرسمي صفة الإمبراطورية عن الولايات المتحدة باعتبارها أمة ذات خصوصية تميزها عن باقي الأمم الأوروبية، لكنها تصرفت تماماً مثل أي إمبراطورية أخرى ولم تتردد في التشبه بها من خلال زحف الولايات الصغيرة غرباً وضمها للأراضي، ثم تسييجها في عملية إلحاق لا تختلف في شيء عن باقي الإمبراطوريات. وحتى الحرية نفسها التي يعتبرها المؤرخون أحد المفاهيم المؤسسة للتجربة التاريخية الأميركية لم تكن مطابقة لما نفهمه عنها اليوم من مساواة مطلقة للبشر، بل كانت مقتصرة على البيض وحدهم وظل السود لقرون يرزحون تحت نير العبودية. كل هذا النسيان الذي يغلف التاريخ والانتقائية الشديدة في تدوين أحداثه، يدفع المؤلف إلى التساؤل عن مصير الجماعات المهمشة مثل السود واللاتين والمهاجرين الجدد الذين تلاحقت موجاتهم إلى أميركا، ويثير مسألة الدور السلبي الذي تنسبها إليهم الرواية التقليدية للتاريخ. فالغرب الأميركي الذي قيل إنه كان خلاء مقفراً تسكنه قبائل هندية متوحشة كان يزخر بالذهب الذي سيجتذب إليه ألوف المغامرين لينفضح أمر تعمير الأرض كمجرد تبرير لمصادرة أراضي الهنود، كما أن الحرية التي يمجدها التاريخ الأميركي واجهت تحديات كبيرة مع توافد مهاجرين جدد. وإذا كان المؤلف قد حاول من خلال الكتاب تعطيل السرد التاريخي المعتاد والتركيز على التأليف التاريخي بدلاً من رواية الأحداث في تتابعها الذي يفرغها من أية نظرة ناقدة، ثم محاولته الإشارة كلما سمحت له الفرصة إلى ما سماه "التاريخ الاجتماعي والثقافي والديني مروياً ومحللاً في حركة عكسية تنطلق من الأسفل إلى الأعلى مروراً بحياة الرجال والنساء العاديين"، فإن هذا الجهد يبقى في الأخير مستعصياً على مؤرخ واحد وفوق طاقته الشخصية، ما يستدعي تضافر جهود المؤسسات الأكاديمية لإطلاق مشاريع ترمي إلى إعادة قراءة التاريخ الأميركي. زهير الكساب ----------- الكتاب: أميركا، إمبراطورية الحرية: تاريخ جديد المؤلف: ديفيد راينولدز الناشر: ألين لاين تاريخ النشر: 2009