في عام 2002 تولى حزب "العدالة والتنمية"، ذو الجذور الإسلامية، الحكم في تركيا، بعد أن حقق انتصاراً حاسماً في الانتخابات البرلمانية التي جرت آنذاك. وأدى صعود حزب إسلامي إلى السلطة في هذا البلد فائق الأهمية إلى إثارة العديد من الأسئلة سواء داخل تركيا أو خارجها منها: هل يخفي حزب العدالة والتنمية وراءه أجندة أسلامية سرية؟ هل سيسعى بعد ترسيخ أقدامه إلى التراجع عن النهج العلماني الذي تتبناه الدولة التركية منذ ما يقرب من قرن والذي نبع من الإصلاحات التي أجراها القائد التركي "كمال أتاتورك" في بدايات القرن الماضي؟ هل الإسلام قادر من حيث الجوهر على التواؤم مع العلمانية؟. يقول "حقان يافوز" مؤلف الكتاب الذي نعرضه هنا وعنوانه "العلمانية والديمقراطية الإسلامية في تركيا": إن الحزب ومنذ وصوله إلى السلطة ظل حريصاً على تجنب اتخاذ موقف أيديولوجي واضح سواء لصالح النهج الإسلامي الأكثر محافظة، أو النهج الديمقراطي. وهو يرى أن السبب الرئيسي لهذه الازدواجية من جانب الحزب هو ذلك الصراع الفكري الذي تخوضه الأحزاب الدينية عادة والمأزق الذي تجد نفسها فيه حائرة بين الاستجابة لمنطلقاتها الأيديولوجية العميقة، وبين التواؤم مع مقتضيات ومتطلبات الحكم وطبيعة اللعبة السياسية والظروف المحلية والإقليمية والدولية. وللتدليل على صواب رأيه، يتتبع المؤلف مسيرة الحزب، والظروف التي تمكن فيها من الصعود إلى السلطة، وأداءه في الحكم، والمصاعب التي واجهها، وكيف تمكن من تعزيز وضعه في الانتخابات النيابية عام 2007، والتي حقق فيها فوزاً كبيراً على القوى المنافسة. ثم يناقش موضوعاً آخر هو هوية المجتمع التركي، فيقول إن المجتمع التركي ليس ممزقاً بين الشرق والغرب، ولا يواجه أزمة هوية كما يذهب إلى ذلك بعض المحللين الغربيين، وإنما هو مجتمع يعتز بقوميته، وبتاريخه العريق، وبجذوره الإسلامية وبتركة "كمال أتاتورك" العلمانية في ذات الوقت. ويرى الكاتب أن العلمانية التركية ساعدت على تعزيز "إسلام الدولة" أي قيام الدولة ببناء المساجد والإشراف عليها، من أجل الحد من نفوذ الجماعات الدينية المتشددة. ويمضي الكاتب إلى القول إن ذلك قد جعل الإسلام التركي أكثر استعداداً للعيش في دولة تتبنى النظام العلماني وتنتشر فيها أشواق دينية قوية في ذات الوقت. ويقدم المؤلف عرضاً لتاريخ العلمانية في تركيا منذ بدايات القرن العشرين عندما تمكن كمال أتاتورك من طرد الغزاة الذين احتلوا أجزاء من تركيا عقب سقوط الخلافة العثمانية، واتخذ سلسلة من الإجراءات المتلاحقة، الثقافية والفكرية الهادفة لتعزيز العلمانية في البلاد، وتمكن من هزيمة حركات المعارضة الإسلامية التي حاولت الوقوف في وجه نظام حكمه العلماني. ورغم الجهود التي بذلها أتاتورك لترسيخ جذور العلمانية في المجتمع التركي، فإن تركيا بعد وفاته عام 1938، ظلت وإن بخطى وئيدة تحاول الابتعاد تدريجياً عن علمانيته العسكرية أي المستندة إلى الجيش التركي كعنصر حماية لها وكضامن لاستمرارها، وتمكنت بتؤدة من إجراء إصلاحات إسلامية هادئة. ويطرح المؤلف رأياً يستحق التأمل مفاده أن الغرب قد نظر إلى العلمانية الكمالية على أنه أداة إصلاح تقف في مواجهة "الإسلام السياسي الرجعي"، في حين أن المؤسسة التركية الكمالية أي المؤسسة التركية الرسمية التي تتخذ من مبادئ وتعاليم "القائد الأعظم" مرشداً وهادياً، قد استخدمت تهديد الإسلام السياسي عبر مراحل تاريخها، كذريعة لتفادي التحول الديمقراطي الكامل والتمسك بالسلطة. ويروي المؤلف تفاصيل الانقلاب الهادئ الذي وقع عام 1997، بعد أن أطاح التحالف العسكري البيروقراطي الكمالي بالحكومة الائتلافية المنتخبة التي كان يقودها نجم الدين أربكان زعيم حزب "الرفاه" الإسلامي الذي كان قد دخل في ائتلاف حكومي مع "تانسو تشيلر" السياسية التركية المحسوبة على اليمين المعتدل وزعيمة حزب "الطريق القويم" الذي أسسه رئيس الجمهورية آنذاك "سليمان ديميريل" العلماني الشهير. فرغم نجاح الائتلاف في البداية، فإن خطاب أربكان المتشدد نوعاً ما وبعض الإجراءات التي اتخذها، جعلا الجيش يشعر بأن هذه الحكومة إسلامية أكثر مما يجب، وأن هناك بالتالي خطراً على مبادئ أتاتورك، مما دفع قادته إلى القيام بانقلاب سلمي أطاح بحكومة أربكان وزج به في السجن. والمؤلف يرى أن هذا الانقلاب الهادئ الذي تم دون إراقة دماء كان هو تحديداً الذي زج بتركيا في أزمة شرعية متجددة، لا يمكن أن تحل إلا من خلال "لبرلة" النظام السياسي. وينهي المؤلف كتابه بمناقشة آخر انتخابات أجريت في تركيا عام 2007، ويناقش تداعياتها على تركيا والعالم الإسلامي، ويقول إن تلك الانتخابات كانت بمثابة معركة مصير لحزب العدالة والتنمية، بل تركيا بأكملها، لأن نتيجتها كانت تعني امتداد حكم الإسلاميين الجدد المعتدلين، أو الدخول في مرحلة فوضى سياسية نتيجة للتهديدات التي ترددت آنذاك حول احتمال تدخل الجيش للتأثير على نتيجة الانتخابات والحيلولة دون فوز الحزب، وهو ما لم يتحقق، ومثل في حينه نهاية للمرحلة الانقلابية في الحياة السياسية التركية عندما كان الجيش يتدخل لتغيير الحكومات التي يرى أنها لا تلتزم بالخط العلماني للدولة والتي كانت آخرها حكومة حزب "الرفاه". سعيد كامل --------- الكتاب: العلمانية والديمقراطية الإسلامية في تركيا المؤلف: حقان يافوز الناشر: كامبريدج ميدل إيست ستاديز تاريخ النشر: 2009