فرض مفهوم "القوة الدافعة" نفسه على علوم ومعارف شتى، طبيعية وإنسانية، لارتباطه بقيمة مركزية في سلوك البشر ومسارات الحياة عموماً هي القوة، ومزاوجته بين الفكر والحركة، أو بين النظري والتطبيقي، واشتماله على متقابلات تمثل الطبيعة المتوازنة للحياة، حيث الشيء ونقيضه، فالليل يقابله النهار، والسائل يقابله الصلب، وعلى المنوال ذاته فإن القوة يقابلها الدفع أو الصد. وقد قادت التحديات التاريخية التي واجهت العالم الإسلامي في تاريخه المديد إلى إفراط الفقهاء في الحديث عن الجهاد بشتى درجاته، التي تبدأ بكبح شرور النفس وتنتهي عند التصدي للغزاة ومواجهة الجائرين، لكنهم لم يعطوا اهتماماً كافياً لمفهوم "القوة الدافعة" الذي يتجلى واضحاً في النص القرآني، محدد الملامح والمعالم، ويحمل من الشمول المادي والرمزي ما يوجب الالتفات إليه، والعناية به، والسعي في سبيل تجلية أصله وجوهره، وشرح جوانبه ودعائمه، والانطلاق منه لبناء رؤية تحوي كل ما يتصل به. وينبع هذا المفهوم من الآيات الكريمة التي يقول فيها رب العزة سبحانه وتعالي: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ) (البقرة: 251)، (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأمُور) (الحج: 40، 41). فهذه الآيات الكريمة تخبرنا في بساطة ووضوح أن الإصلاح في الأرض يتطلب وجود رأسين متحاورين، وجبهتين متواجهتين، تدفع كل منهما الأخرى، وتصدها وتردها، وتبين لنا أن في هذا الدفع فائدة كبيرة للإنسانية، وصوناً لها من الانهيار التام، الذي ينجم إما عن تجبر لا يُقاوم، أو تخاذل لا يثير نخوة، وتؤكد في الوقت ذاته أن ممارسة الدفع ضد الظالمين والغزاة والمتجبرين هو نصرة لله تعالى، ورسالة الأنبياء التي تقوم على عبادة الله بالصلاة له، والاستخلاف في الأرض بإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي العلوم الطبيعية نجد أن إسحاق نيوتن قد استعمل هذا المصطلح "القوة الدافعة"، ليعبر به عن مقدار حركة الجسم المتحرك، وهي تساوي حاصل ضرب الكتلة في السرعة الاتجاهية. وتحفظ القوة الدافعة عندما يتصادم جسمان من دون قوة خارجية. وعندها فإن مجموع قوتهما الدافعة بعد التصادم تساوي مجموعها قبله. وإذا كانت لدى الجسمين قوة دافعة ابتدائية تساوي صفراً، فإن مجموع قوتهما الدافعة النهائية يساوي أيضاً صفراً، ولذلك فإن القوة الدافعة التي يكتسبها جسم واحد تساوي القوة الدافعة التي يكتسبها الجسم الآخر، وتعاكسها. أما أرشميدس فاستعمل المفهوم نفسه في صياغته قانون الطفو، حيث من الأسهل رفع الجسم إلى أعلى وهو مغمور بالماء عن رفعه بعيداً عنه أو خارجه. فللماء تأثير على الجسم المغمور مقاوم لوزن الجسم، لكن أضعف منه. وهنا تصبح القوة الدافعة هي القوة التي يؤثر بها الماء على الجسم المغمور به، وهي قوة مقاومة للوزن، ويمكن قياسها، على أساس أنها تعادل وزن حجم السائل الذي يزيحه الجسم. وهناك "القوة الدافعة الكهربائية" وهي مقياس لكمية الشغل اللازمة لنقل وحدة الشحنة الكهربائية خلال دائرة. وهنا يشير المصطلح أيضاً إلى كمية الطاقة الوضعية المأخوذة من مصدر لكل وحدة شحنات مارة خلاله، ومصدرها البطاريات والمولدات الكهربائية، فإذا أعطيت وضعية كهربائية مقدارها "جول" واحد لكل "كولوم" من الشحنة المارة خلال المصدر، فإن القوة الدافعة الكهربائية للمصدر تصبح "جولاً واحداً" لكل "كولوم"، أو ما يطلق عليه "فولت". وفي الروافع بشتى أنواعها هناك تناطح دائم بين ذراع المقاومة وذراع القوة، وحضور دائم وعملي لـ"القوة الدافعة" بغية توفير الجهد والمسافة، فقانونها هو: (القوة × ذراعها = المقاومة × ذراعها). والرافعة آلة تتكون من قضيب صلب يمكن تحريكه بسهولة حول نقطة ارتكاز، ومنها البسيط الذي يستخدم في بيوتنا، ومنها المعقد الذي يستخدم في رفع وتحريك البضائع الثقيلة في أحواض السفن والمصانع، وفي مواقع البناء. وفي علم الفلك هناك مفهوم يسمى "القوة الطاردة" Repulsive Force ويعني القوة المؤثرة على غازات مذنب، والتي تعمل على ضغط الجزئيات المنبعثة من رأسه في اتجاه مضاد لاتجاه جذب الشمس، بحيث ينشأ الذيل على الناحية من المذنب غير المقابلة للشمس، وينشأ جزء من القوة الطاردة بفعل ضغط الإشعاع بينما الجزء الآخر ناشئ من الإشعاع الجزيئي الشمسي. وفي الطب تتجلى القوة الدافعة في "المضادات الحيوية" التي هي عبارة عن مواد كيماوية تفرزها كائنات حية مجهرية. وهذه المواد لديها فعالية قتل البكتريا، من دون التأثير على خلايا الإنسان. وقد وصف الأطباء تلك المضادات بأنها "الدواء المعجزة". وحسب السنن الكونية ومنطق الحياة فإن التدافع مستمر بين المضادات الحيوية والجراثيم، فالأخيرة تفرز مواد مقاومة شرسة وسريعة الظهور للمضادات تلك لم تكن في حسبان المكتشفين الأوائل للمضادات الحيوية مثل فيلمنج وفلوري وتشاين. وهكذا في تدافع ومقاومة متبادلة بين الدواء والداء. وفي علم الاقتصاد عكف جين كلاود لاريش المتخصص في علم التسويق عشر سنوات كاملة على دراسة "تأثير القوة الدافعة" في ظل بحثه عن وسائل لتحقيق نمو فعال وتنمية مستدامة، حيث قام بإجراء تحليل تجريبي لأداء شركات قائمة "فورتشن" البالغة ألف شركة على مدار عشرين عاماً (1985ـ2004)، من خلال فحص معدلات الإعلان والمبيعات الخاصة ومدى تأثيرها على العوائد والأرباح ورسملة السوق، إلى جانب بحث إكلينيكي على مئة وخمسين شركة منها، بغية تحديد المحركات الأساسية لنموها. وتعامل لاريش مع المفهوم في هذا المضمار على أنه "قوة الدفع الذاتي"، حيث يثبت أن بعض الشركات قد تمكنت من تحقيق قفزة في معدل النمو على رغم استخدام موارد أقل نسبياً، نظراً لأن بعض المنتجات لم تكن في حاجة إلى عوامل خارجية حتى تندفع إلى الأمام، بل اعتمدت على قواها وخصائصها الذاتية. وفي أسواق الأوراق المالية يقيس "مؤشر القوى الدافعة" التغير في مقدار سعر السهم لفترة معينة، صعوداً وهبوطاً، كما يوفر المعلومات المرتبطة بقوة السهم وسرعته والخلفية العامة له، إلى جانب أماكن تواجد المستثمرين. ويتم حساب هذا المؤشر عبر تحديد الفارق بين سعر سهم معين اليوم وسعر نظيره في الأيام السابقة، ويرصد هذا الفارق يومياً وتفريغه في شكل رسم بياني. وأفرط علم النفس التربوي في استخدام مصطلح "القوة الدافعة" لتربطه بالتعزيز والتشجيع وكل الحوافز التي تساعد النفس البشرية في التغلب على ما بها من ميل طبيعي إلى الراحة وإيثار السلامة والخوف من التضحية، وتفجر كل طاقاتها الكامنة، وتنخرط في عمل إبداعي مفيد ونافع. ويعتمد الأمر هنا على اكتشاف القائم بالتعزيز لنقاط قوة من أمامه ليوظفها في دفعه قُدماً، وكذلك نقاط ضعفه ليساعده على التخلص منها، والإيمان بالقدرات العظيمة للإرادة الإنسانية. واستخدم الرياضيون هذا المصطلح في سياق حديثهم عن المحفزات المادية والمعنوية التي تدفع فريقاً رياضياً ما للفوز على منافسه. ولا يقتصر هذا التصور على الجوانب المعنوية فحسب، بل يمتد إلى علاقة النشاط البدني بسائر القوى الاجتماعية والطبيعية المحيطة باللاعبين. وما تقدم يبين أن مفهوم "القوة الدافعة" عابر للعلوم عبوره للمواقف والأحداث والأشياء والموجودات، ويظهر مدى مركزيته في الطبيعة ومسارات الحياة وسلوك البشر، الأمر الذي يفرض ضرورة فحص هذا المفهوم ودرسه، وتتبع تفاعلاته في تاريخ العلم، وقدرته على أن يقدم لنا في كثير من الأحوال إطاراً لتفسير العديد من الظواهر الإنسانية، والسلوكيات الفردية، على حد سواء.