لم تكد تجفّ دماء ضحايا مجزرة غزة، حتى بدأت دول أوروبية عديدة إعادة النظر في قوانينها الجنائية التي تعطي محاكمها الوطنية صلاحية النظر في قضايا جرائم ضد الإنسانية بصرف النظر عن الجغرافيا السياسية لمسرح هذه الجرائم. وكانت هولندا أول من بادرَ إلى ذلك قبل عدة سنوات عندما رُفعت أمام قضائها قضية جريمة مخيمي صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في ضاحية بيروت عام 1982 بأمر من وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت الجنرال أرييل شارون وبإشرافه الشخصي. يومها تولى عدد من المحامين الأوروبيين والهولنديين رفع القضية بعد أن جمعوا الوثائق -بما في ذلك وثائق رسمية إسرائيلية- التي تثبت الإدانة. ولما وجدت الحكومة الهولندية أن استقلال القضاء الهولندي بقبوله الادعاء، وباحتمال إصداره حكم الإدانة، سيورّطها في أزمة سياسية مع الولايات المتحدة وإسرائيل، بادرت إلى تعديل قوانينها بما يمنع محاكمها من قبول مثل هذه الدعاوى. وهذا ما تفعله إسبانيا اليوم لقطع الطريق أمام لجوء مجموعة من المحامين الدوليين إلى رفع قضية مجزرة غزة أمام القضاء الإسباني. واستناداً إلى ما ذكرته وزيرة الخارجية الإسرائيلية "تسيبي ليفني"، فإن وزير الخارجية الإسباني ميغل أنغل موراتينوس أبلغها رسمياً "أن إسبانيا قرّرت تغيير قانونها المتعلق بالصلاحية الدولية وتقييد صلاحية المحاكم في هذا المجال، لأن من شأن ذلك أن يحول دون إساءة استخدام النظام القضائي الإسباني". فمتى كانت محاكمة مجرمي الحرب إساءة لاستخدام النظام القضائي الإسباني؟ إلا إذا كان المجرمون إسرائيليين، وهم بالتالي فوق القوانين التي تطبّق على غيرهم فقط من مجرمي الحرب. في الأساس شرّعت الدول الأوروبية هذه القوانين دفاعاً عن حقوق الإنسان (شرعة الأمم المتحدة 1948) وعن حقوق الأقليات (شرعة الأمم المتحدة 1993). ولكن في كل مرة كانت مجموعة حقوقية دولية تبادر إلى محاسبة مسؤولين عسكريين أو سياسيين إسرائيليين على أعمال تنتهك الشرعتين، تقفل أبواب المحاكم الأوروبية في وجوههم، وتذهب الحكومات إلى حدّ تعديل وإلغاء القوانين التي تسمح بذلك. كانت الأمم المتحدة تحيي ذكرى المحرقة اليهودية -الهولوكوست- يوم السابع والعشرين من يناير الماضي، عندما كانت الطواقم الطبية لا تزال منهمكة في رفع الجثث من تحت أنقاض البيوت التي دمرتها إسرائيل فوق رؤوس أصحابها في غزة. وقد سبق للأمم المتحدة أن أقرّت في عام 2005 هذا اليوم بالتحديد ليكون يوماً عالمياً لإحياء ذكرى المحرقة بطلب أميركي- إسرائيلي- أوروبي. غير أنه عندما ارتكبت إسرائيل مجزرة مخيم جنين في الضفة الغربية، وعندما رفعت رئيسة المنظمة الدولية لحقوق الإنسان صوتها عالياً بإدانة المجزرة التي وصفتها بأنها جريمة حرب، عوقبت بإنهاء خدمات زوجها الذي كان يشغل منصب رئيس البنك الأوروبي المركزي، ثم أنهيت خدماتها. أكثر من ذلك، فرضت الدول الأوروبية وخاصة فرنسا وألمانيا "مادة ثقافية" جديدة على طلاب المدارس اسمها "المحرقة اليهودية"، وذلك لتذكير الأجيال الأوروبية الطالعة بما ارتكبه آباؤهم وأجدادهم من جرائم ضد اليهود. أما الجرائم التي يرتكبها الإسرائيليون ضد الفلسطينيين خاصة، وضد العرب عامة، فهي غير مشمولة بالمساءلة أو المحاسبة على النحو الذي حاول شمعون بيريز أن يقنع به مؤتمر دافوس في سويسرا. وكانت إسرائيل قد افتعلت أزمة مع الفاتيكان على خلفية تصريح أدلى به أسقف كاثوليكي -بريطاني الأصل- يدعى ريتشارد وليمسون. لم ينكر وليمسون المحرقة، ولكنه شكّك فقط في رقم الستة ملايين الذي يتمسك به اليهود حول عدد الضحايا. وقد اعتبر هذا التشكيك جريمة، ليس في المفهوم الإسرائيلي فقط، وإنما في المفهوم الأوروبي أيضاً. ذلك أن معظم الدول الأوروبية تحت ضغط الابتزاز اليهودي، شرَّعت قوانين تعتبر التشكيك في المحرقة أو حتى في أرقام الضحايا جريمة يعاقب عليها القانون. وقد حاكمت فرنسا المفكر الكبير جارودي، كما حاكمت الأب بيار أحد أشهر الآباء المعنيين بالقضايا الاجتماعية والإنسانية في فرنسا وأوروبا على خلفية تصريحات اعتبرت أرقام الضحايا مبالغاً فيها.. ولذلك سارع الفاتيكان تحت سيف الابتزاز أيضاً إلى إصدار بيان جاء فيه "أن من ينكر حقيقة المحرقة لا يفقه شيئاً من سرّ الله ولا يعلم عن صلب المسيح.. والأكثر فداحة من هذا أن يأتي النكران من قسيس أو مطران أو كاهن مسيحي، سواء أكان كاثوليكياً أم لم يكن". لقد رأى الفاتيكان كما جاء في البيان "أن المحرقة تدلّ على قدرة الشرّ الهائلة، وأنها تمثل تحدياً للإيمان بوجود الله ذاته، وهو التحدي الأكثر وضوحاً الذي يواجهه ضمير الإنسان المعاصر إن لم يكن الأوحد". لا شك في أن هذا صحيح. ولكن ماذا عن الشرّ المطلق الذي مارسته إسرائيل في غزة.. ومن قبل في جنين.. وجنوب لبنان؟ ألا يشكل هو أيضاً تحدياً للإيمان بوجود الله؟ وبالتالي: لماذا يحاسب المشككون في حجم الجريمة النازية ضد اليهود.. ولا يحاكم مرتكبو الجريمة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والعرب؟ ليس صحيحاً أن العرب وحدهم هم الذين يرفعون الصوت مطالبين بمحاكمة مجرمي الحرب في غزة. هناك مجموعات من الحقوقيين الأوروبيين يتحركون في هذا الاتجاه، وهناك مجموعة كبيرة من الحقوقيين الأميركيين اتخذت صفة الادعاء لـ"الدفاع عن حقوق الإنسان". بل إن هناك مجموعة من الحقوقيين الإسرائيليين ومن الناشطين في القضايا الإنسانية تتحرك في هذا الاتجاه أيضاً. ولذلك تهرع الدول الأوروبية الواحدة بعد الأخرى إلى تعديل قوانينها الجنائية حتى لا تسمح لمحاكمها الوطنية بإصدار مذكرات توقيف بحق مجرمي الحرب الإسرائيليين لتجنّب اتهام هذه الحكومات باللاسامية. ففي الولايات المتحدة صدر قانون وقّعه الرئيس السابق جورج بوش يعاقب على أي قول أو عمل لا سامي. وبموجب هذا القانون يعتبر لا سامية ما يلي: - الانتقادات التي تتعرض للسياسة الإسرائيلية في الإعلام الأميركي أو العالمي. - رسم إشارة الصليب المعقوف على قبور اليهود (وماذا عن قبور المسلمين؟). - الاعتداء على المدارس ودور العبادة اليهودية (وماذا عن المدارس ودور العبادة الإسلامية والمسيحية التي دمرتها إسرائيل في غزة؟). وقد أقيم في كل من الجامعات الأميركية ما يُعرف باسم Campus Watch -أي مرصد لمراقبة الحرم الجامعي- مهمته منع الأساتذة والطلاب من القيام بأي عمل أو إعداد أي دراسة أو مقال، يتعاطف مع الفلسطينيين أو ينتقد إسرائيل باعتباره عملاً معادياً للسامية. فالقانون الأميركي يقول إن اللاسامية هي معاداة اليهود، أو الصهيونية، أو إسرائيل. وهذا يعني أن أي انتقاد للصهيونية من حيث هي مشروع سياسي يعتبر لا سامية، وأن أي انتقاد للسياسة الإسرائيلية وللجرائم الجماعية التي ترتكبها في الضفة الغربية وغزة، أو لاحتلالها أجزاء من سوريا ولبنان أو تهديدها بقصف المفاعل النووي الإيراني.. الخ، هو لا سامية أيضاً. وحتى انتقادها لما ارتكبته من جرائم ضد الإنسانية في غزة هو لا سامية كذلك. ولقد سُجن في النمسا الكاتب الكندي المشهور أرنست زيندل لمجرد أنه أعلن بعد أن قام بدراسة علمية معمقة للهولوكوست أنه غير مقتنع بالسيناريو المتداوَل والذي روّجت له الحركة الصهيونية وجعلت منه نصاً مقدساً غير قابل للبحث أو التدقيق. وفي فرنسا طُرد أستاذ جامعي من عمله لأنه شكّك في صحة رقم الستة ملايين يهودي ضحايا "الهولوكوست". وتعرض الكاتبة الفرنسية فيفيان فورستر في كتابها "الجريمة الغربية" Le crime Occidental وقائع مهمة عن رفض الدول الأوروبية استقبال اليهود قبل أن يعمد هتلر إلى إحراق بعضهم، وتمسكها بهذا الموقف حتى بعد ارتكاب جريمته، فكان تهجيرهم بعد ذلك إلى فلسطين لينتقموا من جلاديهم بالتنكيل بالفلسطينيين الأبرياء من دير ياسين في عام 1948 حتى غزة في عام 2008. فيا أيها اللاسامية كم من الجرائم ضد الانسانية ترتكب باسم مكافحتك.