الظاهر من زيارة المبعوث الأميركي جورج ميتشل لمنطقة الشرق الأوسط، التي شملت كلاً من إسرائيل والأراضي الفلسطينية، هو تعزيز اتفاق وقف إطلاق النار، ومساعدة سكان قطاع غزة على النهوض من حطام العدوان الإسرائيلي الأخير عليهم. إلا إن التحدي الأكبر الذي يواجه المبعوث الأميركي، عقب انتهاء زيارته الحالية وبدء التخطيط لزيارات مستقبلية إلى المنطقة، يتمثل في الحقيقة المريرة التي لا سبيل للتغاضي عنها: إن حل الدولتين المستقلتين لطرفي النزاع الإسرائيلي الفلسطيني قد أوشك على الموت. والملاحظ أن هذا الحل، القائم على مبدأ "الأرض مقابل السلام" قد ظل محوراً رئيسياً لكافة الجهود الدبلوماسية الرامية لحل هذا النزاع المأساوي منذ حرب الأيام الستة في شهر يونيو من عام 1967. لكن وبسبب استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، والتوسع المستمر في بناء المستوطنات اليهودية، أصبح هذا الحل غير ممكن من الناحية العملية. ونستدل على هذه الحقيقة بما يلي: في عام 1993 حين تصافح كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين وياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، في حديقة البيت الأبيض، كان هناك 109 آلاف من من الإسرائيليين المقيمين في المستوطنات المنتشرة في مختلف أنحاء أراضي الضفة الغربية -عدا عن القدس-. أما اليوم فقد بلغ عدد الإسرائيليين هناك نحو 275 ألفاً يقيمون في ما يزيد على 230 مستوطنة، بينما شيدت مستوطنات جديدة، قصد منها تمديد البقاء الاستراتيجي لاسرائيل في الأراضي الفلسطينية. اليوم تمثل مستوطنة "إريل" التي تعد أكبر مستوطنة خارج القدس الشرقية، مكاناً لإقامة ما يقارب الـ20 ألفاً. وتقع تلك المستوطنة فيما يعادل ثلثاً واحداً من أراضي الضفة الغربية. ومع ذلك يمتد الحاجز الأمني الإسرائيلي لمسافة أبعد من حدود تلك المستوطنة بكثير في عمق الضفة الغربية، بهدف تأمين المستوطنة داخل حدود ذلك الحاجز الأمني. ويؤكد قادة المستوطنة بثقة لا تهتز أنهم جاءوا إليها ليبقوا مدى الدهر. ولا يكف هؤلاء عن الذهاب المستمر في رحلات متواترة إلى الولايات المتحدة الأميركية، دفعاً لموجات المزيد من المهاجرين اليهود الأميركيين صوب مستوطنتهم. ولم تكتف إسرائيل بذلك، بل أقامت بنية تحتية عملاقة لخدمة هذه المستوطنات وحمايتها. فهناك المنشآت العسكرية وأبراج المراقبة، وطرق المرور المخصصة للمستوطنين وحدهم، بحيث يسهل لهم الوصول إلى معابد القدس، وكذلك إلى الساحل البحري في تل أبيب. وقد ساهمت هذه البنية التحتية في تجزئة أراضي الضفة الغربية إلى جيوب وأجزاء صغيرة، ممزقة بذلك حياة الفلسطينيين أنفسهم. وبغية الفصل الكامل بين الجزء العربي من الضفة الغربية، وجزئها اليهودي، أنشأت إسرائيل ما يزيد على 625 من حواجز الطرق ونقاط التفتيش وغيرها من الحواجز الأمنية. وهذه المنشآت ازدادت بنحو 70 في المئة عما كانت عليه عام 2005، بينما تعادل مساحة الأرض المقامة عليها، مساحة ولاية ديلاور، التي تعد ثانية أصغر ولاية أميركية. وفي حين لا تواجه الإسرائيليين أي عوائق أو حواجز أمنية في تنقلهم في تلك المناطق، يلاحظ أن تنقل الفلسطينيين بين قراهم وبلداتهم يتطلب المرور بسلسلة عذاب طويلة من الإجراءات الأمنية المشددة، إلى حد يرغمهم على إمضاء عدة ساعات في أقصر الرحلات التي يقومون بها بين تلك القرى والبلدات. وفوق ذلك يقطن ما يقارب الـ200 ألف يهودي اليوم في ما يسمى بضواحي القدس الشرقية العربية، ممن يقيمون داخل "حلقة إسمنتية" منيعة، تفصل عاصمة الدولة الفلسطينية المرتقبة عن بقية أراضي الضفة الغربية. وعليه فإنه يصعب جداً تخيل الكيفية التي سيحكم بها رئيس الدولة الفلسطينية، بلاداً تنفصل عاصمتها عن بقية دولته! يجدر الذكر أن هذه التغييرات الجغرافية السياسية على الأرض، قد حدث معظمها إثر إطلاق عملية أوسلو للسلام. وبعد مضي حوالي 41 عاماً عليها، فقد أصبح حل الدولتين المستقلتين شبه مستحيل من الناحية العملية، طالما أن الهدف النهائي لذلك الحل، هو إقامة دولة فلسطينية موحدة مستقلة، وليست تلك الممزقة الأوصال التي رسمتها رؤى المهندسين الإسرائيليين الهادفة لإدامة الوجود الإسرائيلي في تراب فلسطين. ومما يزيد من مصاعب بل استحالة قيام الدولة الفلسطينية، عناد المستوطنين أنفسهم الذين تعهد بعضهم باللجوء لوسائل العنف والمقاومة في حال تدخل العسكرييين الإسرائيليين لإخلاء المستوطنات بالقوة. وبالنظر إلى الحماس الديني لهؤلاء -حيث يتخذون من المحافظة على بقاء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية، واجباً دينياً مقدساً لهم- وأعدادهم الكبيرة -إذ يزيدون عن أولئك الذين تم إخلاؤهم من قطاع غزة عام 2005 بعشرات الأضعاف-، فإن هذه التهديدات الصادرة عنهم باستخدام العنف في مقاومة الإخلاء، يجب الأخذ بها على محمل الجد. ولعل هذا ما حذر منه الرئيس الإسرائيلي أثناء زيارته الأخيرة للندن، بقوله إن من شأن إخلاء المستوطنين بالقوة، أن يشعل حرباً أهلية في إسرائيل. وقد زاد من تعذر حل "الدولتين"، استمرار إطلاق الصواريخ من مقاتلي "حماس"، وهذا الرد الوحشي من قبل إسرائيل عليهم كما رأينا خلال عدوانها الأخير على القطاع. إذاً فإن على جورج ميتشل تجاوز حل "الدولتين" واجتراح طرق دبلوماسية جديدة مبتكرة لحل يقوم على فكرة الدولة الواحدة. وفي هذا ربما كان الفيلسوف مارتن بوبر -صديق ألبرت آينشتاين- عوناً له بتصوره للدولة الثنائية القائمة على السيادة المشتركة، والمساواة الكاملة في حقوق الشركاء، اعتماداً على حب الشعبين المشترك لأرضهم ووطنهم. ساندي تالون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ مشارك بكلية أننبرج للاتصالات بجامعة كاليفورنيا الجنوبية، ومؤلف كتاب: شجرة الليمون: عربي ويهودي في قلب الشرق الأوسط ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"