الاكتئاب أنواع، ومن أنواعه ما يعرف باكتئاب ما بعد الولادة (Postpartum Depression)، الذي يعرف على أنه نوع من الاكتئاب الذي يصيب النساء، وأحياناً حتى الرجال، بعد ولادة الطفل بأربعة أو ستة أسابيع. وتشير بعض التقديرات إلى أن معدل انتشار هذه الحالة المرضية يتراوح ما بين 5% إلى 25% بين النساء، وإن كان اختلاف الطرق الإحصائية في التقديرات، يجعل من الصعب تحديد النسبة بشكل دقيق. ويختلف أيضاً الأطباء حول سبب الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة، فالبعض يرده إلى التغيرات الهرمونية التي يتعرض لها جسم المرأة بعد الولادة وخروج الجنين. بينما يرده البعض الآخر إلى فقدان ساعات النوم الذي تتعرض له الأم عند وصول المولود الجديد، بسبب حاجته إلى الرعاية المستمرة على مدار الأربع وعشرين ساعة، وهو ما يتضح من حقيقة أن غالبية النساء اللواتي يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة، لديهن أطفال يعانون من مغص شديد ومستمر، أو غيره من الاضطرابات التي تتطلب قضاء الأم لساعات طويلة في رعايته بشكل مستمر، على حساب نومها وراحتها. وإن كانت بعض هذه الحالات لا تعتبر اكتئاب ما بعد الولادة بشكله التقليدي، ولذا تعرف أحياناً بإرهاق ما بعد الولادة، حيث تنتج هذه الحالات ببساطة بسبب الإرهاق الشديد، ويمكن التخلص منها بسهولة من خلال الحصول على قدر كاف من الراحة والنوم يومياً. وكثيرا أيضاً، وبنسبة 80%، ما تتعرض الأمهات الجدد، إلى نوع من التحسس العاطفي المؤقت (Baby Blues) ومثل هذه الحالة لا تستمر إلا بضع ساعات أو أياما قليلة فقط، وتتميز بسرعة البكاء، والتهيج العصبي، والأرق، وفقدان التركيز، والعزلة، والصداع. والغريب أن بعض الرجال يتعرضون لمثل هذه الحالة بعد ولادة زوجاتهم أيضاً. وتختلف هذه الحالة بشكل جوهري ورئيسي عن اكتئاب ما بعد الولادة، ولا تعتبر مقدمة للإصابة به، أو بغيره من الاضطرابات النفسية الأخرى. وهنالك بعض العوامل المعروف عنها أنها تزيد من احتمالات إصابة الأم بهذه الحالة المرضية في شكلها الشديد، مثل: 1- استخدام الحليب المجفف، بدلاً من الرضاعة الطبيعية. 2- وجود تاريخ سابق من الاكتئاب الإكلينيكي. 3- التدخين. 4- التعرض لضغوط شديدة في الحياة اليومية. 5- ضعف العلاقة الزوجية. 6- الحمل غير المخطط أو غير المرغوب فيه. 7- القلق والتوتر والاكتئاب أثناء الحمل. 8- إصابة الطفل بآلام أو مشاكل صحية، تجعله كثير البكاء أو قليل النوم. 9- ضعف الدعم العائلي للأم الجديدة. وإن كان أخطرها، هو التعرض للاكتئاب سابقاً، والتدخين، والرضاعة الاصطناعية. وأمام هذه القائمة الطويلة من عوامل الخطر، والانتشار الواسع لاكتئاب ما بعد الولادة، يصبح من المهم التنبؤ بهذه الحالة أثناء فترة الحمل، أي قبل وقوعها. وهو ما يعتقد مجموعة من الباحثين في جامعة كاليفورنيا أنه هدف ممكن تحقيقه، من خلال قياس مستوى هرمون خاص (pCRH) في الدم أثناء فترة الحمل. فضمن العدد الأخير من إحدى أبرز الدوريات المتخصصة في الأمراض النفسية (Archives of General Psychiatry)، نشرت دراسة أجريت على 100 امرأة، تم قياس مستوى الهرمون في دمائهن خلال فترات مختلفة من حملهن، ثم قيمت حالاتهن النفسية بعد مرور ثمانية أسابيع على ولادتهن. ومن بين جميع المشاركات في الدراسة، أصيبت ستة عشر منهن باكتئاب ما بعد الولادة. وبمقارنة الحالة النفسية لهؤلاء النساء بتحاليل الدم التي أجريت أثناء الحمل، اكتشف الأطباء أنهن كن يتمتعن بأعلى نسبة من الهرمون الخاص (pCRH) خلال الأسبوع الخامس والعشرين من حملهن. وهو ما يعني أن قياس مستوى هذا الهرمون لجميع النساء أثناء الحمل، يمكّن الأطباء من التنبؤ بمن منهن ستصاب بالاكتئاب بعد ولادتها. ويفسر العلماء هذه العلاقة، على أنها نتيجة أن هذا الهرمون هو المسؤول عن إنتاج هرمون "الكورتيزول" المعروف عنه أهميته في مساعدة الجسم على التعامل مع التوتر والضغوط التي يتعرض لها أثناء فترة الحمل. ولكن بعد الولادة ينخفض مستوى هذا الهرمون، وينخفض معه مستوى هرمون "الكورتيزول" أيضاً. ولذا يعتقد العلماء أنه كلما كان مستوى الهرمون أعلى خلال الحمل، كلما كان قدر الانخفاض أكبر وأسرع بعد الولادة، ما يؤدي إلى تدهور الحالة النفسية، وظهور أعراض الاكتئاب. وإذا ثبت هذا من خلال دراسات أكبر وأوسع، يمكن حينها أن يدرج قياس مستوى هذا الهرمون ضمن الفحوص الروتينية التي تخضع لها المرأة كجزء من متابعة الحمل، وخصوصاً أن الفترة التي يرتفع فيها مستوى الهرمون، هي نفس الفترة التي يقاس فيها مستوى السكر في دم المرأة لكشف احتمالات إصابتها بسكري الحمل. والحال أن تطبيق مثل هذا الفحص من شأنه أن يعتبر تطوراً هائلاً، على صعيد الرعاية الصحية والدعم الذي يقدم للأمهات الجدد اللواتي يصبن بهذه الحالة، بالنظر إلى العبء النفسي الذي يقع عليهن، والمتمثل في الإحساس بالحزن، وفقدان الأمل، والشعور بالذنب والفراغ، واضطرابات النوم والأكل، والشعور الدائم بالإرهاق والفراغ النفسي، وسرعة الإحباط والغضب. ولا يقتصر تأثير هذه الحالة على الأم فقط، بل يمتد أيضاً للزوج، حيث كثيراً ما تؤدي إلى انهيار العلاقة الزوجية، والطلاق. وإن كان التأثير الأخطر لاكتئاب ما بعد الولادة، هو تأثيره على العلاقة بين الأم ومولودها، الذي قد يؤدي لإهمال رعايته، في فترة يكون بقاؤه فيها معتمداً بشكل كبير على رعاية أمه. د. أكمل عبدالحكيم