باتت القضية الفلسطينية تحتاج، أكثر من أي وقت مضى، إلى نوع جديد من التفكير النضالي يتجاوز حالة الانقسام الفصائلي الراهنة ويؤسس لأدوات جديدة. وإحدى أهم القضايا التي تحتاج لوقفة خاصة بشأنها، والتي تبدو مهملة في إطار الاحتراب الفلسطيني هي قضية القدس، في الوقت الذي تجري فيه تطورات خطرة جداً في المدينة، بدءاً من الحفريات للأنفاق التي تهدد المقدسات والأحياء الفلسطينية، وصولاً إلى التغير الديمغرافي الهائل في المدينة. فالمدينة لا تشهد فقط عمليات عزل ومنع للعرب والفلسطينيين من دخولها وحسب، بل ويسكنها نوع محدد من الإسرائيليين، فثلث سكان القدس الآن هم من اليهود المتدينين الأصوليين -على رغم أن نسبتهم في إسرائيل ككل لا تصل 10% ونسبتهم تزيد بسرعة، في ظل نسبة تكاثر عالية تجعل معدل عدد أفراد عائلاتهم سبعة أشخاص، (مع نسبة نمو سكاني في إسرائيل أقل من 2%)، ووسط هجرة اليهود العلمانيين من المدينة، ما ينبئ بحسب دراسة حديثة لمركز "القدس لدراسات إسرائيل" بأن الأصوليين اليهود سيصبحون أغلبية بالمدينة في غضون 10 أعوام. وبحسب ما أصبح تقليداً فلسطينياً، ينقسم الفلسطينيون الآن حول كل شيء، فبموازاة تشكيل لجنة رسمية من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية تسمى لجنة "احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية (2009)"، أعلن في يوليو العام الماضي، من دمشق، تأسيس لجنة أخرى قريبة من "حماس" تحت اسم "الحملة الأهلية لاحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية". ومن قضايا الخلاف بين اللجنتين مسألة زيارة القدس، فالأولى دعت وزراء الثقافة العرب والمثقفين لزيارة المدينة، على قاعدة أنّ زيارة الأسير مؤازرة له، وليست تطبيعاً مع السجان، والثانية اعتبرت الأمر جسراً للتطبيع مع إسرائيل. وحقيقة الأمر أنّ زيارة القدس ينبغي أن تتخطى الزيارات الرسمية إلى الزيارات الشعبية، وذلك بهدف تأكيد الوجود العربي والمسلم والمسيحي في المدينة، وتأكيد الارتباط بها، فمن يزور المدينة حالياً يلحظ حالة الفراغ النسبي للشوارع من أبنائها العرب مقارنة بما كان عليه الأمر قبل فرض الحصار وقبل بناء جدار الفصل العنصري حول المدينة. والراهن أن بعض الجمعيات الدينية المسيحية الأوروبية حسمت أمرها في هذه القضية منذ سنوات، فهي تسيّر رحلات حج وزيارة متكررة للمدينة، وهي تدرك الحرب الصهيونية على مسيحيي المدينة التي أدت إلى تناقص الحضور المسيحي العربي في المدينة من نحو 23% قبل نحو قرن من الآن إلى أقل من 2% حاليّاً، وقررت أن أية زيارة للمدينة تتم للقدس الشرقية فقط، مع حظر كامل على زيارة القدس الغربية أو التعامل مع أي فندق أو مطعم أو متجر إسرائيلي وحصر التعامل مع العرب فقط. وبطبيعة الحال حتى لو شاء العرب زيارة القدس فإنّ هذا غير ممكن لغالبية الجنسيات العربية لأن إسرائيل لا تسمح به لعدم وجود علاقات دبلوماسية مع الدول العربية، ولكن هناك على الأقل دولتين لديهما علاقات دبلوماسية، وبالنظر للثقل الديموغرافي المصري فإنّ العدد الذي يمكنه -نظريا- زيارة المدينة كبير، يضاف إلى ذلك ملايين الفلسطينيين والعرب والمسلمين الذين لديهم جنسيّات أوروبية وأميركية. ويحقق العمل على زيارة القدس من كل هؤلاء عدة وظائف، فإذا رفضت إسرائيل منح التأشيرات للزيارة، أو منعوا في المطارات، فإنّ هذا دليل جديد على هشاشة اتفاقيات السلام وعدم التزام إسرائيل بها، ودفعة أخرى في طريق تجميد هذه الاتفاقيات، إضافة إلى فضح معاداة إسرائيل لحرية الأديان أمام العالم. وإذا ما دخلت هذه الأعداد للمدينة فإنّ هذا من شأنه تعزيز الحضور العربي والإسلامي ودحض محاولات إسرائيل تقديم وجه آخر للمدينة، كما أنّ الأموال التي سينفقها هؤلاء في المدينة والتي يجب أن تكون محصورة كليّاً في الجانب العربي ستدعم صمود المدينة ومؤسساتها وأهلها. لم يكن النضال يوماً عملية بسيطة، وهو على درجة عالية من التعقيد، وسيكون من الذكاء جداً تحويل العقبات والمخططات التي يضعها العدو إلى مداخل للرفض والتحدي. ومن ذلك العمل على إيجاد تدافع واعٍ لزيارة القدس وفلسطين دون أن يكون في ذلك تطبيع أو دعم للاقتصاد الإسرائيلي.