الأرقام المتعلقة بالعمالة ونسب المواطنين الخليجيين مقارنة بالعمالة الأجنبية في دول الخليج ومؤشرات تنمية الموارد البشرية التي تكلم عنها المشاركون في جلسات المؤتمر السنوي الرابع عشر لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية الذي ينهي أعماله اليوم، تثير الانتباه وتدعو إلى الوقوف أمامها طويلا فأغلب تلك الأرقام تشير إلى وجود مسافة كبيرة بين ما هو محلي وما هو أجنبي في سوق العمل وكل الأرقام لا تبشر بإمكانية ردم الهوة بين طرفي المعادلة في وقت قريب أو بسهولة، فالمسألة بحاجة إلى كثير من الجهد وبحاجة إلى وقت طويل قد يستغرق سنوات. إن اختيار موضوع المؤتمر السنوي لمركز الإمارات هذا العام جاء متسقاً مع الوضع العالمي للموارد البشرية والذي يشهد بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية تسريحاً لأعداد كبيرة من الموظفين في جميع أنحاء العالم بهدف تقليص النفقات في وقت تكاد تتوقف فيه عجلة الاقتصاد في كل دول العالم... فملايين العاملين في مختلف القطاعات فقدوا أعمالهم وصاروا يقفون في طابور البطالة من جديد مع الباحثين عن عمل، وهذا الطابور قد يبدأ في أميركا وينتهي عندنا نظراً لعدم تأثر دول المنطقة بنفس قدر تأثر كثير من دول العالم... في الإمارات لا نواجه هذه المشكلة بالصورة التي يعاني منها العالم لكن من المهم أن يتم الحديث الآن عن قضية صارت تفرض نفسها بقوة وتبين مدى جديتها وتأثيرها في الحياة اليومية. هناك رؤية واضحة من القيادة لأهمية الموارد البشرية التي تعتبر من أهم أسباب تقدُّم الأمم ونجاح الشعوب... وهناك قناعة بأن خطط التنمية والتطور لا تتحقق إلا بتوافر موارد بشرية وطنية مؤهلة وفاعلة... وهذا لا يعني عدم الاستعانة بالأجنبي فهناك خبرات تختصر الزمن وتوفر المال يجب الاستعانة بها كي تساهم في البناء لكن من المهم التعامل معها على أساس أنها خبرات مؤقتة وبالتالي عدم تجاهل الحقيقة وهي الموارد البشرية الوطنية. وكانت إشارات الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان وزير الداخلية في كلمته الافتتاحية مختصرة وذكية عندما أشار إلى المقولة الخالدة للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان: "إن الإنسان هو روح التنمية وسر قوتها"، والمقولة المعروفة لصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله: "إن الشباب هم ثروة الأمة ورأسمالها الأول"... بالإضافة إلى التوجيهات الدائمة للفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد لأعلى للقوات المسلحة رئيس المجلس التنفيذي، بجعل الإنسان مكوِّنا فاعلاً في دفع عجلة التنمية. وكانت الكلمة الرئيسية في المؤتمر لصاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة مؤسسة الفيصل للدراسات والبحوث الإسلامية وكانت كلمة قيمة قال فيها: "إننا مطالبون في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بالسعي الحثيث لاستكمال التكامل، ومراجعة سياساتنا الاقتصادية باتجاه بناء سياسات وطنية تعود منافعها على المواطنين"، وأكد على أهمية الموارد البشرية عندما قال إن "مواجهة البطالة بين مواطني الخليج تكون ببذل جهود حثيثة في التعليم والتدريب، فالنفط نعمة ناضبة، أما شعوبنا فهي باقية ما بقيت الدنيا". دول الخليج نجحت في التنمية الاقتصادية بشكل مذهل وملفت للعالم أجمع كما نجحت في التنمية العمرانية وهي تخطو خطوات حثيثة في التنمية الاجتماعية والصحية، لكن من الواضح أنه رغم كل الجهود التي بذلت وما تزال تبذل فإن هناك خللا في تنمية الموارد البشرية والدليل هو الاستمرار في الاستعانة بالخبرات الأجنبية وعدم إعطاء الموارد البشرية المحلية الثقة الكاملة في جميع المجالات. في الإمارات هناك جهود كبيرة بذلت لتنمية الموارد البشرية سواء من خلال تأهيل الخريجين الجدد لسوق العمل أو من خلال خلق قيادات شابة جديدة، وتمت الاستعانة ببيوت خبرة عالمية وبخبراء من الشرق والغرب فكيف كانت نتيجة هذه الجهود؟ أعتقد أن النتيجة لم تكن مرضية بالشكل الذي كان يتمناه الجميع، وهنا يجب أن نعرف أين الخلل؟ وأين تكمن المشكلة؟ هل في الموارد البشرية أم في نوعية الدورات ومستوى المدربين أم في خطط التدريب أم غير ذلك؟ شخصياً أعتقد أن مواردنا البشرية -مع استثناءات بسيطة- متميزة وطموحة وأثبتت أنها تتعلم بشكل سريع وعندما أعطيت الفرصة أثبتت أنها لا تقل مستوى عن الخبرات التي تأتي من الخارج... وقد يختلف معي البعض في ذلك لكن الواقع أثبت ذلك والنماذج كثيرة. الموارد البشرية المحلية بحاجة إلى الاهتمام وزرع الثقة فيها خلال جميع مراحل عملها ابتداء من اليوم الأول لتوظيفها إلى أن تصل أعلى الدرجات الوظيفية.. فإعطاء الفرصة الكافية للموظف هي التي تجعله متميزاً ومعطاءً أما الاعتماد الكامل على الكوادر الأجنبية الجاهزة فاعتقد أنه سيخلق على المدى البعيد مشكلات عديدة أقلها أنه في حال مغادرة تلك الكفاءات الأجنبية لن يكون هناك وجود لكفاءات وطنية يمكن الاعتماد عليها لإكمال مسيرة التنمية، ومن جانب آخر يؤدي هذا الوضع إلى عدم وجود تراكم خبرات لدى الكوادر المحلية مما يعني بقاء كل ما هو مستورد لأطول وقت ممكن. تنمية الموارد البشرية لا تحتاج إلى مجرد تعليم جيد أو تدريب جيد أو تأهيل جيد وإنما تحتاج أيضاً إلى إعطاء الثقة لتلك الموارد حتى تعمل دون خوف من حساب عسير في حال الخطأ... كما أن هذا النوع من التنمية يحتاج إلى كثير من الصبر والمتابعة فتنمية الإنسان ليست ببساطة تنمية الاقتصاد أو التنمية العمرانية التي يمكن أن تنجز خلال سنة أو سنتين فتنمية الموارد البشرية في أية دولة تحتاج إلى سنوات طويلة من التخطيط والعمل كما تحتاج إلى إيمان كامل بتلك الموارد قبل منحها التعليم والتدريب. في دول كدول مجلس التعاون الخليجي لا يمكن إلا أن نعتبر تنمية الموارد البشرية من المسائل المتعلقة والمرتبطة بشكل مباشر بالأمن القومي للدول فاستقرار البلدان وأمنها مرتبط بشكل مباشر بمواردها البشرية التي تتألف من أبناء هذا البلد فأي تقصير في تنمية هذه الموارد أو أي تردد في الاهتمام بها يعتبر تعريضاً لأمن واستقرار البلاد للخطر... لذا فإن الدول الخليجية، وخلال السنوات المقبلة، قد تكون أمام تحد حقيقي يتمثل في قدرتها على التعامل مع مواردها البشرية بشكل سليم وقدرتها على المزج المتوازن والمنطقي بين من نستعين بهم من خبرات أجنبية وبين تأهيل أبناء البلد للحصول على الوظائف المناسبة أولا ومن ثم إيصال المتميزين منهم إلى المناصب القيادية.