واجه المسؤولون الأميركيون ومديرو الشركات الذين حضروا منتدى دافوس الاقتصادي العالمي لهذه السنة أول ضربة يتلقاها النموذج الاقتصادي الأميركي على الصعيد الدولي بعد الأزمة المالية التي تسببت فيها أميركا وكانت المسؤولة الأولى عن انتشارها في العالم وانتقالها إلى العديد من القطاعات الاقتصادية الأخرى. لكن أكثر من ذلك، جاءت الأزمة الحالية لتضرب في الصميم سمعة أميركا التي اكتسبتها على مدار السنوات السابقة في مجال الإبداع الفكري والممارسات المالية الجديدة، لتمتد التساؤلات المشككة إلى فعالية القيادة الاقتصادية لأميركا وهيمنتها على علم الاقتصاد، سواء في جانبه الأكاديمي، أو التطبيقي والتي كانت تلقى الترويج والدعم في منتديات دافوس السابقة. هذا الواقع الجديد الذي خلقته الأزمة الاقتصادية ذات الجذور الأميركية لم يغب عن صحيفة "وول ستريت جورنال" ليلتقطه عنوان في صفحتها الأولى يقول: "الرأسمالية الأوروبية تحرز قصب السبق". وإذا كان الاقتصاد الأميركي يواجه الانتقادات المتوالية، فإن كفاءة الولايات المتحدة في جميع المجالات باتت اليوم محط شك كبير وجدل واسع على الصعيد الدولي، بل هناك تشكيك في جدوى استمرار قيادة أميركا للعالم بعد ستة عقود من الانفراد بها. فقد كانت اجتماعات دافوس على مر السنين السابقة فرصة تسعى من خلالها أميركا إلى إقناع أوروبا، بالتخلي عن قيمها المدافعة عن تدخل الدولة واقتصادها الاجتماعي أحياناً والمسيحي أحياناً أخرى، لتبني الأفكار والتصورات الأميركية حول إدارة الشركات والقطاع المالي. ومع أن التعليقات الأميركية على الأزمة الراهنة جاءت منتقدة للسياسات الاقتصادية المتبعة وداعية إلى مراجعة النموذج الاقتصادي الحالي (ما عدا بالطبع بعض المؤسسات المالية في وول ستريت التي يبدو أنها منفصلة تماماً عن الواقع الإنساني)، إلا أنه في الغالب الأعم لمسنا عدم رغبة في تحمل الولايات المتحدة مسؤولية ما جرى والاعتراف بالخطأ الفادح الذي ارتكبته في إدارة الاقتصاد والفشل في التنبؤ بالأزمة، بل كان الموقف العام الذي التزمت به المؤسسات الأميركية هو: "إننا جميعاً نرتكب الأخطاء، وعلينا المضي قدماً بدل التحسر على الماضي". وقد كان لافتاً أيضاً على هامش الأزمة واتساع رقعتها أنه تم استدعاء مجموعة من الخبراء والاقتصاديين ممن حذروا في السابق من النموذج المالي الحالي فهُنئوا ومنهم من أُعيد إلى منصبه بعد إقالته من وظيفته. ورغم ما قيل عن الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد وكيف أمكننا الوصول إلى هذا المستوى من الركود وعدم التنبؤ به يبدو أن الستار قد أُسدل على النقد بعدما استعاد معظم الفاعلين في المجال الاقتصادي تلك التعويذة التي رددها دونالد رامسفيلد في إحدى المرات ودون خجل: "تلك أمور تحدث". بيد أن هذا التنصل الواضح من المسؤولية ومحاولة الهروب إلى الأمام قد ينجح داخل الولايات المتحدة في التخفيف من حدة الاستياء العام، لكنه بالقطع لن ينطلي على المتابعين في الخارج، أو الدول التي تضررت مصالحها الاقتصادية بسبب الأزمة التي بدأتها أميركا. فقد صرح مدير شركة "مورجان ستانلي"، فرع آسيا، خلال مناقشاته على هامش منتدى دافوس أن سنة 2009 "ربما تكون أول سنة منذ الحرب العالمية الثانية يشهد فيها الناتج المحلي الإجمالي تراجعاً ملموساً على الصعيد العالمي". وفي إطار التوقعات المتشائمة نفسها، رسم صندوق النقد الدولي صورة قاتمة عندما ضاعف تقديراته بشأن البنوك المفلسة خلال السنة الجارية، كما أفادت المنظمة الدولية للشغل أن ثمة ما لا يقل عن 40 مليون شخص سيفقدون وظائفهم في العالم، وستصل الخسائر الأميركية بسبب الديون الهالكة إلى 2.2 تريليون دولار في السنة نفسها، وهو ضعف التقديرات التي أعلنها صندوق النقد الدولي قبل شهرين فقط. والأمر لا يقتصر على الأضرار الاقتصادية التي لحقت بدول العالم أجمع، أو بالخسائر المادية التي أفرغت خزائن البنوك، بل امتدت أيضاً إلى التداعيات النفسية والسياسية والوطنية، كما يؤشر على ذلك تغير مهم وجوهري مفادة أن السمعة الأميركية في قيادة العالم تعرضت لضربة قاسية ستطيح بما تبقى من مصداقيتها. وبالرجوع إلى سنوات إدارة الرئيس بوش، بما تخللها من غطرسة وجهل وتدخلات فاشلة في شؤون العالم، نجد أنه بالموازاة مع ذلك رافقها حماس غامر من قبل الأميركيين بأن بلدهم قادر على قيادة العالم وتزعم حملة دولية لتخليق الكون عبر تدمير الشر واستبداله بـ"الحرية". وحتى بعدما تبين فشل تلك السياسات، واصل معظم منتقدي إدارة بوش مساندتهم العامة لخط محاربة "الإرهاب"، فهم يعتقدون أنه تحت إدارة باراك أوباما الأكثر دهاءً يمكن الدفاع عن السياسات السابقة والاستمرار على نهجها في تكرار واضح لمناسبات سابقة عندما تغيرت قيادة البلد في الحرب الكورية وفي الحرب الباردة وحرب فيتنام واليوم "صدام الحضارات"، دون أن يعني ذلك تغيراً في السياسة نفسها. ولصرف انتباه العالم عن الحروب والإخفاقات السياسية حل الازدهار الاقتصادي الذي قدمه "ألان جريسبان" بخيلاء فاقع على أنه "فوق التاريخ"، حيث أقام الأميركيون نظاماً اقتصادياً جديداً أثرى العالم الصناعي وتعهد بتعميم الازدهار على الجميع، لكن بانهيار هذا النموذج كما توضح الأزمة الحالية سقطت ورقة التوت التي كانت تستر قيادة أميركا للعالم وانكشفت الحقائق تباعاً. فمن الضروري اليوم الاعتراف بأن أميركا لم تكسب الحرب الباردة، إنما كانت الشيوعية من خسرتها بسبب فسادها الداخلي، وأن جميع حروب أميركا في آسيا انتهت في الحقيقة إلى هزائم، من سقوط الصين في قبضة الشيوعية ومعها فيتنام وكوريا وكمبوديا، إلى هزائم الحروب الأخرى في الصومال ولبنان وإيران والعراق، بل حتى الحرب على الإرهاب انتهت بإزهاق أرواح العديد من المدنيين الأبرياء وتدمير بلدين آسيويين والحبل على الجرار. لكن تبقى الكارثة الماثلة أمامنا اليوم، كما اتضح ذلك في دافوس، أن النموذج الاقتصادي الأميركي القائم على التحرير المفرط للأسواق، والذي كان إلى وقت قريب يُروج في المحافل الدولية على أنه الوسيلة الأفضل لتحقيق التقدم البشري، ثبت تحت الفحص أنه لا يعدو جزءاً من الاحتيال الرخيص والاغتناء الشخصي ونهب مقدارت دول العالم النامي، إضافة إلى ما ينطوي عليه ذلك النموذج من مؤامرات وطنية ودولية وفساد عابر للقارات وتدمير غير مسبوق للبيئة.