كانت لحظة بالغة الحرج والدقة لعمرو موسى، لم يمنع نفسه من الوقوف لمصافحة أردوغان تحية لموقفه على منبر "دافوس"، لكنه أحجم عن التمثل به، أو اللحاق به، على رغم أن الرغبة ساورته لبضعة أعشار الثانية ثم عاد فجلس. لكن، بعد مغادرة رئيس الوزراء التركي، لم يبْقَ أي داعٍ للجلوس بجانب رئيس إسرائيلي نال التصفيق، لأنه أكد للمصفقين أن يديه ملطختان فعلاً بدم فلسطينيين ولبنانيين وعرب آخرين. ولو خرج الأمين العام للجامعة العربية لكان الزخم السياسي اكتمل، وليس مهماً بعدئذ أن يقال إن العربي تبع التركي. كان لا بد أن يتعرض "دافوس"، البارد إلى حد اللاإنسانية، لشيء من السخونة، بعد محرقة غزة، لعل أولئك الهابطين من كوكب المريخ الذين يخططون للمنتدى "البزنسي"، يدركون أخيراً أن تقديسهم المفرط لـ"البزنس"، عجز حتى الآن عن تأسيس قيم جديدة على ركام القيم التي يدوسها مجرمو الحرب الإسرائيليون بأقدامهم. هذا منتدى عاجز عن ترويج قيم السلام، وبات مرتبطاً بتمجيد أبطال الحروب القميئين، كأنه يقام في عصر غابر أو في كهف متعفن. أردوغان حشر "دافوس" في الزاوية التي تدعي أنها تحشر فيها الجميع، حاكمتها بالقيم التي ظنها تؤمن بها، غادر قائلاً إنه لن يعود، ينبغي أن يحذو حذوه كل زعيم يحترم نفسه وبلاده، أياً تكن جنسيته. فالعالم لا يحتاج إلى منتدى آخر للاستماع إلى أكاذيب إسرائيل، ولا لرؤية الغرب الأميركي والأوروبي وهو يستحسن تلك الأكاذيب ويستعذبها، ناهيك عن التصفيق لها. كان مجيء أردوغان وحزبه إلى الحكم قطعاً مع ماضٍ أمعن العسكر الأتراك في إفساده وشيطنته، جاء من حزب إسلامي استطاع أن يبرهن براجماتيته اللامحدودة كلما تعلق الأمر بمصلحة تركيا ومواطنيها. لم يمس العلاقة التركية- الإسرائيلية، اقتناعاً بأن فيها مصلحة، بل تركها تعمل بلا مراجعة ولا شروط، ولعله رأى إمكان توسيعها من مجرد علاقة بين جيشين وأجهزة استخبارات إلى علاقة بين حكومتين يمكن أن تمارسا شيئاً من الشراكة السياسية. عامل أردوغان الإسرائيليين برصانة ظناً منه أنهم سيبادلونه احتراماً باحترام، وحاول أن يدخل من تلك العلاقة إلى ما اعتبره مسعى لعقلنة الهوس الإسرائيلي. خاب ظنه، وأدرك أنهم كذبوا ويكذبون عليه، فما يهمهم هو المصالح القائمة مع تركيا، ولا تعنيهم أي شراكة إلا إذا كانت حكومة أردوغان مستعدة للعمل في خدمتهم ووفقاً لأجندتهم، مثلها مثل الولايات المتحدة وأي دولة أوروبية. اكتشف أردوغان أن الإسرائيليين كانوا يراوغون في المفاوضات غير المباشرة مع سوريا لمجرد استثارة إيران، ولم يكن هدفهم إقامة سلام. ثم اكتشف أنه إزاء آلة للقتل لا إزاء دولة تحترم نفسها، فلم يستطع السكوت أمام المجازر، خصوصاً أن الرأي العام التركي توقع منه ألا يسكت. الأكيد أن أردوغان لا يبحث عن قطيعة وعداء مع إسرائيل، وإنما يسعى إلى أن يكون شريكاً ناقداً لممارسات فاقت في وحشيتها كل المقاييس، وبعد المشادة المباشرة مع شمعون بيريز باتت إسرائيل أمام مشكلة لا بد أن تتعامل معها، خصوصاً أنها لم تتعود سماع انتقادات واتهامات مباشرة، نافذة ومؤثرة، من رجل دولة بهذا المستوى، ولا حتى من أي حاكم عربي. والأهم أن الزعيم التركي يتكلم أيضاً بصفته مسلماً وغير معادٍ للسامية، ثم إن خطابه بسيط وواضح ولا تشوبه شائبة مهاترة أو شعبوية فارغة وفضفاضة، ولذلك فخطابه مفحم ومحرج. فالرجل يقدم نفسه كرجل سلام، ولا يتفوه بأي استفزاز لا لليهود ولا للشعب الإسرائيلي، ويبدي كل استعداد للعمل من أجل السلام، ولا ينتظر من الإسرائيليين سوى أن يحترموا كلمتهم طالما أنه يحترم كلمته. السلام، الاحترام، التوسط، كلمات تبدو مستهجنة في قاموس المافيا التي تحكم إسرائيل، والمافيات ترفض في العادة كل من يتحداها، خصوصاً إذا تحداها بالأخلاقية التي طلقتها منذ وجدت. لعل أردوغان قال قوله بصفته مرشحاً لأن يصبح أحد زعماء الاتحاد الأوروبي، بل قال ما يفترض أن يعبر عن قيم أوروبية، ولذا تسعى إسرائيل إلى معاقبته وإسكاته، لأنها لا تتحمل صوتاً خارجاً عن النمط السائد، فهذه أوروبا الحكومات اختارت جميعاً أن تتفرج على محرقة غزة بصمت مريب. لا شك أن أهم ما برهنه أردوغان أنه ليس زعيماً عربياً وإلا لما تجرأ على إبداء مواقفه، لكنه أكد أن هناك مساحة كبيرة للعمل حتى في إطار علاقات سلام. والأهم أن أردوغان لا يخاف على منصبه ولا يناصب شعبه العداء بل هو متصالح معه. أما العرب فربما كانوا جميعاً مثل عمرو موسى يغتبطون لكلام أردوغان ولا يستطيعون اللحاق به.