لقد بدأنا في التو في تكوين فكرة ما عن السياسة التي قد يتبعها الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما في الشرق الأوسط. وكان أوباما قد أعطانا بعض المؤشرات عن تلك السياسة خلال حملته الانتخابية، أما الآن وقد أصبح رئيساً، فإنه بدأ يتخذ بعض القرارات. التفاصيل الكاملة لسياسة أوباما لم يكشف عنها النقاب بعد، وهو ما قد يرجع إلى أنه لم يتخذ حتى الآن قرارات بشأن كافة المسائل المعروضة عليه، حيث من المعروف عنه أنه رجل يتسم بالدقة، والتروي، والحرص على الاستماع إلى آراء كافة المختصين قبل الإقدام على اتخاذ القرار. مع ذلك، وخلال الأيام الأولى من حكمه أصدر الرئيس بعض التلميحات المثيرة للاهتمام حول نوعية القرارات التي سيتخذها. خلال حملته الانتخابية، حرص أوباما بشكل عام على تجنب الحديث عن المسلمين، كما لم يزر أي مسجد أبداً، ولم يظهر في أي صورة مع رجل دين مسلم، أو حتى مع واحد من قادة الأميركيين من أصول عربية، كما تجنب ذكر أي شيء عن أبيه المسلم، أو عن أنه قد عاش في بلد إسلامي. كان ذلك كله يمثل محاولات متعمدة للهروب من التعليقات التي قد يطلقها منتقدوه الذين يتهمونه بالفعل بأنه ليس أميركياً قحاً بسبب أبيه واسمه الأوسط (حسين). كذلك كان أوباما مُقِلا في الحديث عن الصراع العربي- الإسرائيلي، بيد أنه عندما دُعي للمشاركة في مؤتمر عقدته منظمة "أيباك" التابعة للوبي المؤيد لإسرائيل استجاب للدعوة، وألقى كلمة بدت مؤيدة كثيراً لإسرائيل. وهذا الموقف ترك الكثيرين في حيرة من أمرهم، يتساءلون عما سيقوم به بالفعل تجاه الشرق الأوسط عقب توليه الرئاسة. وقد أمِل بعض منتقدي الرئيس السابق بوش أن أوباما سيتخلى عن تحيز بوش الشديد لإسرائيل، ويتعامل مع الطرفين على قدم المساواة، بيد أنهم لم يكونوا واثقين من ذلك تمام الوثوق. ولكن هذه الأمور بدأت تتضح الآن. فخلال أسبوعه الأول في الرئاسة اختار أوباما أن يمنح فرصة إجراء أول مقابلة سياسية رسمية له لقناة "العربية" الفضائية، وهو ما كان مهماً من الناحية الرمزية. وخلال هذه المقابلة ذكر أوباما بعض الأشياء المهمة، التي لم يكن قد تطرق إليها خلال حملته الانتخابية التي تواصلت لعامين كاملين. كان من ضمن ما قاله- على سبيل المثال- أن وظيفته هي: "توصيل حقيقة مفادها أن الولايات المتحدة لها مصلحة في رفاهية العالم الإسلامي، وأن اللغة المستخدمة بينها وبين ذلك العالم يجب أن تكون لغة قائمة على الاحترام"، وأضاف أوباما: "لدي أقارب من المسلمين، كما أنني عشت في دول إسلامية، ووظيفتي هي أن أوصل للشعب الأميركي أن العالم الإسلامي مليء بالأشخاص الاستثنائيين الذين يريدون أن يعيشوا حياتهم في أمان وأن يضمنوا لأبنائهم حياة أفضل من حياتهم". ما قاله أوباما شيء جديد، واللافت للنظر أن رد فعل معظم الأميركيين عليه كان إيجابياً. الأكثر أهمية من ذلك، أن مقاربة أوباما للصراع العربي- الإسرائيلي تبدو مختلفة جد الاختلاف عن تلك الخاصة ببوش. ويعتقد معظم الخبراء الأميركيين أن تحقيق تقدم بصدد هذه المسألة يتطلب ثلاثة أشياء، ولكن ليس من المعروف حتى الآن ما إذا كان أوباما سيتبع نصيحتهم أم لا. التوصية الأولى، التي قدمها هؤلاء الخبراء أن الرئيس الأميركي يجب أن يمنح هذه المسألة أولوية قصوى ويتعامل مع الصراع بشكل مباشر. وقد حاول أوباما أن يطمئن الجميع بخصوص هذه المسألة عندما قال في تلك المقابلة: "أعتقد أن أهم شيء بالنسبة للولايات المتحدة، هو أن تنغمس في هذا الموضوع فوراً". ووعد بأنه: "لن ينتظر إلى اقتراب انتهاء فترة ولايته كي يبدأ التعامل مع موضوع السلام الفلسطيني- الإسرائيلي وإنما سيبدأ الآن". والحقيقة أن هذه التصريحات مهمة للغاية، خصوصاً وأن سابقيه في الحكم جورج بوش الأب والابن وبيل كلينتون، لم يتعاملوا مباشرة مع الصراع العربي- الإسرائيلي إلا عند اقتراب انتهاء ولايتهم في الحكم وعندما يكون الوقت قد تأخر كثيراً. ونظراً للأزمة المالية العالمية الحالية، فإنه كانت هناك مخاوف عبر عنها كثيرون من أن أوباما سوف يفعل الشيء نفسه. أما التوصية الثانية، فكانت هي السعي للحصول على استشارات من مستشارين غير منحازين لديهم القابلية والاستعداد للاستماع إلى كافة الأطراف المعنية. ويُشار في هذا السياق إلى أنه كانت هناك إشاعات كثيرة حول أن باراك أوباما سيختار "دنيس روس" كي يكون موفداً له في الشرق الأوسط، وهو الرجل المعروف بانحيازه الشديد لإسرائيل، ولكن أوباما خيب تلك الإشاعات واختار "جورج ميتشيل"، وهو لبناني الأم، والرجل المعروف بعدم تحيزه، وقدرته التفاوضية المتفوقة التي مكنته من حل الصراع طويل الأمد في أيرلندا. التوصية الثالثة أن الرئيس يجب أن يخصص بعضاً من وقته لحل تلك المشكلة، لأن ميتشيل عندما كان يعمل مبعوثاً لكلينتون في أيرلندا، كان يحتاج إلى الاتصال بالرئيس لفترة طويلة كل يوم ليطلعه على مجريات الأمور، وخصوصاً في النقاط الحرجة، وهو ما ساعد على نجاح تلك المفاوضات. ومهمة متشيل ضخمة للغاية، لأن هناك خلافات كبيرة بين إسرائيل والفلسطينيين، علاوة على أن كل طرف منهما منقسم داخلياً، كما أن الحرب الأخيرة التي دارت رحاها في غزة فاقمت من تعقيد المشكلة، وأحالت القطاع إلى أطلال، وتركت مشكلات عديدة من دون حل. يُضاف إلى ذلك أيضاً أن هناك قوى أميركية سياسية عديدة تقاوم إجراء أي تغيير في الموقف الأميركي، ولكن أوباما يبدو مع ذلك، وكأنه قد بدأ البداية الصحيحة على أقل تقدير.