إن أي مجتمع يبحث عن التقدم، وينظر إلى المستقبل، ويتطلع إلى موقع متميز على خريطة العالم، يجب أن يعطي أولوية كبيرة للاستثمار في البشر. وعلى الرغم من تعدد عناصر التنمية وأدواتها، فإن نظريات التنمية المختلفة تعطي أهمية كبيرة للعنصر البشري، باعتباره عماد أي تنمية مستقرة ومستدامة تضيف إلى قوة الأمم ومنعتها وتقدمها. وإذا كان التقدم الكبير الذي يشهده العالم على المستويات المختلفة، قد وسع من مصادر الدخل والثروة، فإن البشر يظلون هم الثروة الأساسية لأي مجتمع، إذا ما نجح في إدارتهم واستثمارهم بشكل صحيح. في هذا الإطار، فقد كان "مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية" موفقاً في اختياره موضوع "الموارد البشرية والتنمية في الخليج العربي"، ليكون موضوع مؤتمره السنوي الرابع عشر، الذي بدأ أمس، ويستمر حتى غد الأربعاء، بمشاركة نخبة من الخبراء والمتخصصين في هذا المجال. ولعل أهم ما يميز هذا المؤتمر أنه يناقش العلاقة بين الموارد البشرية والتنمية من منظور شامل يتيح التعرف إلى كل أبعادها، ودراستها بشكل معمق، سواء كانت اقتصادية، أو اجتماعية، أو أمنية، أو ثقافية. الاستثمار في رأس المال البشري هو استثمار طويل الأمد، ولهذا ربما لا يروق لأصحاب النظرة القصيرة، أو الذين يبحثون عن نتائج سريعة ومكاسب فورية، إلا أن التفكير الاستراتيجي طويل الأمد يتعامل مع هذه القضية بشكل مختلف، لأن الأمر يتعلق ببناء الأمم والمجتمعات القوية القادرة على مواجهة التحديات التي تعترضها بفاعلية. وتُعد دولة الإمارات العربية المتحدة من الدول التي تعطي الاستثمار في البشر أولوية متقدمة منذ إنشائها، لأنها تدرك أن العنصر البشري هو أغلى عناصر التنمية التي تمتلكها، وفي هذا الإطار، فإنها تتبنى منهجاً في التعامل مع هذه القضية يقوم على أسس عدة، أولها بناء إنسان عصري قادر على تحمل أعباء التنمية والتفاعل الإيجابي مع متغيرات العصر، وهذا ما يبدو من اهتمامها الكبير بالتعليم والصحة والإسكان والثقافة والبيئة، وغيرها من المجالات التي تصب في تحقيق هذا الهدف. ثانيها فتح المجال واسعاً أمام مشاركة المواطنين في قيادة مسيرة التقدم والتنمية على المستويات كافة، وإتاحة الفرصة أمامهم لإثبات ذاتهم، ومنحهم الثقة من قِبل القيادة السياسية لتولي أرفع المناصب في المجالات المختلفة. ثالثها استثمار كل الطاقات البشرية، والعمل على عدم تعطيل أي منها لأي سبب. في هذا الإطار يأتي اهتمام الدولة بالمرأة ومشاركتها الفاعلة في كل مجالات العمل والإنجاز إلى جانب الرجل، وبالتالي أصبحت المرأة الإماراتية وزيرة وسفيرة ونائبة في المجلس الوطني الاتحادي، ولها وجودها المؤثر في الوظائف المهمة والرئيسية في كل قطاعات العمل في دولة الإمارات. وفي هذا الإطار يأتي كذلك العمل على مواجهة البطالة، وإنشاء الهيئات المختلفة لتحقيق هذا الهدف، وفتح أبواب العمل أمام المواطنين. رابعها تحفيز العناصر البشرية المتفوقة بكل الطرق والأساليب المتاحة، من أجل دفعها إلى المزيد، وتشجيعها على الإبداع والتميز، وفي الوقت نفسه الحرص على الاهتمام بالتدريب والتأهيل، حتى تظل العناصر البشرية المواطنة قادرة على التعامل مع متغيرات العصر وتحولاته. هذا الاهتمام بالعنصر البشري والاستثمار الكبير فيه في دولة الإمارات، يعكس إدراكاً لطبيعة التحديات التي تواجهها، وفي مقدمتها الخلل في التركيبة السكانية، وما يرتبط بها من تهديد جدي للهوية، وهو تحدٍّ تمثل التنمية البشرية المدخل الأساسي لمواجهته.