أثارت تصريحات لرئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" بشأن "مرجعية فلسطينية جديدة" قلقاً مشروعاً في الأوساط السياسية الفلسطينية والعربية، قيل إنه امتد حتى داخل حركة "حماس" ذاتها، ومبعث القلق أن تكون هذه الكلمات تعبيراً عن نهج جديد لـ"حماس" إزاء منظمة التحرير الفلسطينية. في البدء كان المطلب المشروع لـ"حماس" وغيرها من الفصائل والقوى الفلسطينية أن يعاد بناء المنظمة بعد طول جمود، بحيث تصبح معبرة بالفعل عن الحقائق الجديدة في الواقع السياسي الفلسطيني، لكن الحديث الآن يمكن أن يفهم على أنه بداية نهج جديد لبناء منظمة بديلة. وربما يعزز الاحتمال السابق ما نشره مركز الإعلام التابع لحركة "حماس" يوم 29/1/2009 من أن فصائل فلسطينية تدرس تشكيل مرجعية سياسية جديدة لتمثيل الشعب الفلسطيني، وأن "لجنة المتابعة العليا" المنبثقة عن المؤتمر الوطني الفلسطيني الذي انعقد في دمشق في يناير من العام الماضي قد تدارست تشكيل قيادة وطنية "متحدة" تكون مرجعية وطنية جديدة تمثل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. يعزز أيضاً الاحتمال نفسه ما صرح به ممثل "حماس" في لبنان في اليوم التالي من "أن الفصائل الفلسطينية وبعد الذي تحقق في غزة خطت خطوات كبيرة نحو تشكيل مرجعية فلسطينية تعمل ضمن إطار (واحد) يعيد للشعب الفلسطيني حقوقه". ليس حديث "المرجعيات الجديدة" بمستجد على خبرة حركات التحرر الوطني والقومي، ففي لحظات تنوع مناهج التحرير واختلافها وصولاً إلى الانقسام والتناحر بل والصدام فيما بين أبناء القضية الواحدة كثيراً ما شعر فصيل (أو فصائل) بأنه الأجدر بتمثيل الوطن والأمة، فتمرد على الإطار الكلي أملاً في أن يفضي نهجه إلى الانتصار، لكن الخبرة التاريخية لا تبدو مشجعة لهذا المسلك. صحيح أن فريقاً ما قد يكون أكثر إخلاصاً لقضيته من فرقاء آخرين، أو أوضحهم رؤية، لكن فكرة "تجمع القوى الثورية" هي بالضرورة فكرة انقسامية قد يتعادل فيها الأثر الإيجابي المحتمل باتباع نهج أفضل في مواجهة العدو مع الأثر السلبي الأكيد لانقسام الحركة الوطنية في مواجهة العدو، وهو انقسام يتطلب جهوداً مضنية لتجاوزه، وقد تكون الجهود المطلوبة لترشيد الإطار الوطني الشامل أقل بكثير. وتزداد خطورة الانقسام وفداحة تأثيره إذا كانت الحركة الوطنية تتسم بنوع من التوازن بين فصائلها المتناحرة، وأحسب أن هذه هي الحالة الراهنة للحركة الوطنية الفلسطينية. لقد انقسم العمل القومي العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي- على سبيل المثال- ما بين معسكر للقوى الثورية تقوده مصر، وآخر للقوى المحافظة تقوده السعودية، لكن حسابات المواجهة مع إسرائيل فرضت على معسكر القوى الثورية أن يطرح اللقاء مع القوى المحافظة في إطار دبلوماسية القمم العربية التي كان من نتائجها بالمناسبة ميلاد أول رمز تنظيمي شامل لحركة النضال الفلسطينية -منظمة التحرير الفلسطينية- في 1964، وعندما تفجرت الخلافات مرة أخرى بين المعسكرين قبل عدوان إسرائيل على الدول العربية في يونيو 1967 كانت النتيجة هي ما نعلم، بينما بنيت المواجهة السليمة لآثار العدوان في قمة الخرطوم في أغسطس 1967 على "وحدة الصف العربي" وصولاً إلى إنجاز أكتوبر 1973. تظهر الخبرة المعاصرة أيضاً أن الأمور تتطور إلى الأسوأ عندما تفشل فكرة "وحدة القوى الثورية"، وقد نذكر أن النظم العربية التقدمية لم ترض عن مستوى الأداء العربي الشامل تجاه نهج السادات الجديد اعتباراً من زيارة القدس في 1977 وصولاً إلى توقيعه معاهدة للسلام مع إسرائيل في 1979، فقررت تلك النظم أن تنشئ "جبهة الصمود والتصدي" لتكون طليعة للعمل العربي الثوري ضد نهج التسوية، وفي القلب من الجبهة كانت محاولة الوحدة السورية- العراقية التي أعلنت في أكتوبر 1978 لتدوم بالكاد ربع سنة، وتتحطم على صخرة الخلاف بين جناحي حزب "البعث" الحاكم في كل من سوريا والعراق، وتتمزق معها جبهة الصمود والتصدي أشلاء، فكانت النتيجة هي سيادة نهج التسوية في النظام العربي الرسمي، بدليل تبني قمة فاس 1982 مبادرة لم تكن في جوهرها إلا قبولاً لنهج التسوية وإن بشروط أفضل من إطار كامب ديفيد الذي وقعه السادات في 1978. وتبقى بعد ذلك الإشكاليات التفصيلية التي تثيرها تلك التصريحات إن صح أنها ترمي إلى منظمة فلسطينية بديلة، فقد صارت منظمة التحرير الفلسطينية أولاً رمزاً يقترب عمره من نصف القرن لنضال الشعب الفلسطيني، والرمز جامع، ويصعب التفريط فيه مهما كانت انتقاداتنا له على أساس أن استبدال رمز آخر به ليس بالأمر الهين، وهو ما يذكرنا بالموقف من جامعة الدول العربية على سبيل المثال، فكل المؤمنين بالرابطة العربية لديهم سيل من الانتقادات لبنيتها وأدائها، لكن أي مخلص لعروبته لا يمكن أن يفكر في تفكيكها، لأنها صارت رمزاً جامعاً، ولأن التوصل إلى بديل أفضل ليس مضموناً بأية حال. ثم إن منظمة التحرير الفلسطينية تحظى ثانياً بشرعية عربية رسمية كممثل وحيد للشعب الفلسطيني منذ قمة الرباط في 1974، وليس متصورًا أن تتمتع أية منظمة جديدة بالشرعية ذاتها في ظل الأوضاع العربية الراهنة، ولذلك فإن تمزقاً في الشرعية العربية للنضال الفلسطيني سوف يحدث بالتأكيد، وربما تكون بعض النظم العربية في انتظاره على أحر من الجمر لتنفض يدها تماماً من القضية الفلسطينية. كذلك فإن مئة وعشرين دولة تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وليس متصوراً أن تتمتع منظمة جديدة بهذا الاعتراف الدولي، ناهيك عن التنازع على تمثيل فلسطين في المحافل الدولية، وهو تنازع ستدفع القضية ثمنه باهظاً دون جدال. لكل ما سبق فإن من حق المرء أن يتساءل عن الآلية التي تصنع بها القرارات داخل "حماس"، وخاصة أن لدي انطباعاً "ميدانياً" -إذا جاز التعبير- منذ فوز "حماس" بالانتخابات التشريعية في فبراير 2006 بأن ثمة تيارين داخل الحركة أحدهما بالغ التشدد، والثاني مستعد للتعامل مع حقائق الواقع السياسي دون تفريط في الثوابت. لقد ظلت أوساط "حماس" تردد حتى ساعات قليلة قبل إطلاق مشعل دعوته شروطاً مشروعة للمصالحة الوطنية، كالقول إنها يجب أن تبنى على برنامج مقاوم، وعلى الحفاظ على حقوق الشعب الفلسطيني، أو المطالبة بأمور إجرائية كالإفراج عن قيادات "حماس" المحتجزة في الضفة الغربية... وما إلى هذا. ثم خرجت علينا قيادة "حماس" وبعض دوائرها فجأة بهذا الطرح الذي أحسب أنه ليس مدروساً، فهل مثَّلَ الوضع والصمود في غزة مزيداً من الإغراء بأن في مقدور "الجزء" أن يقوم بما يجب أن يقوم به "الكل" خلافاً لسوابق التاريخ والخبرة المعاصرة لحركات التحرر الوطني؟ تمثل هذه السطور دعوة للتفكير، وهي دعوة مستحبة في مثل هذه المواقف العصيبة التي طالما مرت بها حركات التحرر. وعلى رغم أن التأسي بالزعيم الفلسطيني الراحل قد لا يكون مرغوباً من بعض قيادات "حماس"، إلا أنني أدعو إلى التأمل في الأسلوب الذي تعاملت به منظمة "فتح" في ظل قيادته مع منظمة التحرير الفلسطينية، وهو الأسلوب الذي انتهى بـ"فتح" إلى أن تصبح القوة القائدة للمنظمة، وبقائدها عرفات إلى أن يكون رئيسها، بدلاً من السعي إلى تكريس انقسام لن يزيد الأمور إلا سوءاً؟