تحدث الرئيس الأميركي الجديد أوباما، في لقائه مع إحدى الفضائيات، عن كثير مما يعني العالمين العربي والإسلامي، وقد تحدّث كرئيس كما تحدّث من قبل كمنتخبٍ للرئاسة، يعنيه كثيراً الوفاء بوعوده، ويعنيه أكثر أن يسعى إلى "التغيير" كما هو شعاره المعروف، وأن يقول إن هذا التغيير سيشمل السياسة الداخلية والسياسة الخارجية على حدٍ سواء. إن الواقع يختلف تماماً عن الحلم والأمل، وقد تحدث أوباما في المقابلة الأولى له عالميا بعد دخوله البيت الأبيض بكلامٍ جميلٍ وواعٍ، كلّه أو جلّه يصبّ -لدى المراقبين الذين فقدوا الأمل من تغيير السياسات الأميركية- في غاية الأمنية والحلم لا في مجال الواقع، فهو لم يرسل أي رسالةٍ سلبيةٍ لأيٍ من المخاطبين في العالمين العربي والإسلامي، لا، بل أضاف على هذا أنّه زاد في رسائل الودّ على ما قاله في حملته الانتخابية بحديثه عن الأطفال العرب والمسلمين، وبحديثه عن نشأته في أكبر بلدٍ مسلمٍ من حيث عدد السكّان "إندونيسيا"، وقد سبق هذا بأدائه القسم لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية باسمه واسم أبيه "حسين" الذي أصرّ هو على أن يُذكر في القسم دون مواربةٍ. حين تحدّث أوباما عن إيران، وهي إحدى الموضوعات الأكثر أهمية بالنسبة للمتابع العربي، فقد تحدّث وكأنّه يتبنّى وجهة النظر العربية المعتدلة التي تمدّ يد الصداقة وحسن الجوار لإيران ولكنّها في الوقت ذاته ترفض مشروعها للنفوذ الإقليمي بذات القدر الذي ترفض فيه مشروعها النووي، الذي إذا استمرّ فلن تكون له ردّة فعلٍ إلا افتتاح سباق تسلّحٍ نوويٍ في المنطقة. كانت رسالة أوباما للعالم العربي هي أن يبدو معنياً بالاستماع إلى المنطقة وقادتها وشعوبها قبل أن يصدر أحكامه أو يطلق مبادراته، وهذه لغةٌ عاقلةٌ لم تعهد المنطقة -بكامل ثقلها- أن تسمعها من قبل من الزعماء الأميركيين، وهنا تنبغي الإشارة إلى أنّ زعماء المنطقة وشعوبها سوف يبادلون أوباما التحية بمثلها أو أحسن منها، وسيجد لديهم من الرأي والعقل ما يساعده على مسعاه، ويزيده في الوصول إلى بغيته، لا إقراراً بذلٍ ولا خضوعاً لضغطٍ، بل بقراءة حكيمة تكتنز وعي التاريخ وتستحضر إمكانات الحاضر، وتعطي للممكن مداه، وللمستطاع أفقه، هذا لدى العقلاء والقادة، أمّا الغوغاء الذين تسيّرهم الصغائر والذحول فإنّهم لن يقنعوا بدون الوهم والخيال المفتوح والمزايدة الدائمة على الممكن والمستطاع. ثمة مبادرةٌ أطلقها الملك عبدالله وتبنّاها العرب عام 2002 في قمّة لبنان، وهي مبادرة أشار أوباما لتحفّظه على بعض أجزائها وتفصيلاتها، وقد علّق على هذا التحفّظ جماعةٌ من الدبلوماسيين العرب وبأنّهم كدبلوماسيين قادرون على التفاوض حول نقاط الخلاف والوصول لنتائج عمليةٍ مع استحضارهم للحدّ الأدنى الذي يجب أن يتمّ التفاوض عليه، والذي يسع الدول العربية الإقرار به وفق معطيات الواقع وشروطه وإمكاناته. ربما استطاع أوباما القادم حديثاً إلى البيت الأبيض تحريك المياه الراكدة في المنطقة منذ عقودٍ طويلةٍ خلت، ولكنّه لن يفعل هذا إلا بجهدٍ حثيثٍ وسعيٍ دؤوبٍ، يسابق لحل مشاكل المنطقة برؤيةٍ وحكمةٍ، شاملتين متكاملتين، رؤيةٍ يقودها الصبر، وحكمةٍ يحدوها الحق ويسيّرها الواقع. منذ سنواتٍ عدةٍ لم يعد في العالم العربي المؤثر قادةٌ ذوو أفكارٍ مجنونةٍ أو غير معقولةٍ، بل الأغلب الأعم يوحي بقادةٍ حكماء يعرفون طريقهم الذي اختاروه، فلا "صدّامٌ" متجبرٌ هنا ولا "أشباهه" هناك، ومن حق أوباما أن يستمع للرؤساء السابقين لأميركا ليعرف ما تمنّوا حقاً أن يفعلوه أثناء رئاستهم فيما يتعلّق بالمنطقة وطبيعتها وطموحات أهلها، ليحدّد بثقةٍ ما هو قادرٌ على تحقيقه لا إرضاءً لطرفٍ واحدٍ فحسب بل إرضاءً لكل الأطراف. أحسبُ أنّ المطالب العربية هي مطالبٌ يدعمها الحق ويؤيدها العالم، ويرسّخها التاريخ، وأنّ لبعض الدول العربية والخليجية وخاصة السعودية قوةً للضغط على العالم كلّه، وخصوصاً مع تفاقم الأزمة العالمية، إنّ هذه الدول كما يحكي تاريخها هي على استعداد –دائماً- لتقديم العون لأميركا وللغرب بما لا يهضم حقوق أمّتها ولا ينقص من مكاسبها وأرباحها، تتحرك بعقلٍ رشيدٍ وحكمةٍ دائمةٍ لتجني ما تستطيع لأمّتها ولنفسها. حسناً، لحلّ مشكلة بحجم مشكلة فلسطين والشرق الأوسط، نحن بحاجةٍ إلى عالمٍ يحسّ بحجم الألم التاريخي والسياسي والديني في المنطقة، كما يستحضر تعقيداته الهائلة وتشابكاته المستمرة، ويستطيع أوباما بتركيبته المعقّدة أن يكون ذلك الرجل، وأن يأخذ بأيدي الفرقاء في المنطقة إلى مافيه رسم نهايةٍ للمشكلة من أصلها، نعم، هو بحاجةٍ اليوم إلى أن يراعي حقوق سوريا وأراضيها المحتلّة، وأن يتفاوض بقوّةٍ مع إيران، وإلى أن يزيد معتدلي المنطقة قوةً إلى قوّتهم فهم ليسوا ضعفاء، بل أقوياء ولكن عقلاء، وهم بحاجةٍ لعاقلٍ يبادلهم العقل بالعقل والحكمة بالحكمة. يا سادة، نحن بحاجةٍ أن نقول لأوباما، إنّك تحتاجنا كما نحتاجك، ومصالحنا الاستراتيجية مشتركةٌ، وإن لم تتبن مبادرةً قابلةً للتطبيق، فإنّ كثيراً من الجهود ستضيع هباءً منثوراً، وإن أسنت مياه المنطقة فستكثر فيها الجراثيم كما حدث من قبل، والعاقل خصيم نفسه. كائناً من كان الساعي بصدقٍ لحلّ مشاكل الشرق الأوسط، فعليه قبل كلّ شيء أن يستمع بتؤدةٍ وهدوءٍ لكل الأطراف، وأن يرسم خطّته الكاملة بناء على ما يمكن اتخاذه من قراراتٍ وإنجاحه من برامج ومبادراتٍ، وأن يسعى قبل هذا وذاك لأن يكون وسيطاً وراعياً للحقوق الإنسانية والقرارات الدوليّة، وأن يعرف أنّ اجتراح القرارات الصعبة هو سبيل الحلّ والخلاص في منطقةٍ تعبت وأتعبت مشاكلها العالم كلّه. إنّ سياسات الدول العظمى على طول التاريخ لا تتغير من حاكمٍ لآخر، ومن قائدٍ لخلفه، فيما يتعلّق بخطوطها العريضة ومصالحها الدائمة، غير أنّ هذا لا ينفي أنها تتنوّع وتختلف في مساراتها وتوجّهاتها حسب سياسة كل قائدٍ وتوجّه كل زعيم، ولهذا فإنّ أطراف الصراع في المنطقة لا يجب أن يتطلّبوا من أوباما ما هو عاجزٌ عن تحقيقه وإنجازه، بل يجب عليهم مساعدته للوصول للغاية التي يتفقون فيها معه، والسبيل الذي يجب أن يسلكوه سوياً للقضاء على مشاكل مزمنةٍ كانت فيها الأطراف العالمية –سابقاً- جزءاً من المشكلة لا جزءاً من الحل. يفهم أوباما جيداً أنّ التفاؤل وحده ليس كافياً، وأنّ التغيير الذي هو شعاره ليس كافياً كذلك، وأن عليه كرئيس للولايات المتحدة أن يبحث في الحق والممكن والمتاح، وأن لا ينظر للحظة التاريخية الحالية فحسب، بل أن ينظر للتاريخ والمستقبل بالتوازي مع الحاضر، حتى يستطيع أن يكوّن صورةً حقيقيةً عن كلّ ما يجري، وأن يستخلص من ذلك كلّه ما يمكن أن يستصدره من حلولٍ ويسعى إليه من اتفاقاتٍ قد تكون- إنْ وُفّق فيها- تاريخيةً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. على دول المنطقة قبل أن تتواصل مع أوباما أن تريه مدى قوّتها الحقيقية في المنطقة، وأنّ إيران حين تحرّك ذيولها في المنطقة للتهجّم عليها أو على تاريخها أو على نفوذها، على هذه الدول أن تظهر أنيابها، وأن تبدي للقريب قبل البعيد مدى تأثيرها ونفوذها، حتى يعرف كلٌ حجمه الطبيعي فلا يحاول التسلّق على أمجادٍ صنعها غيره وليس له منها شيءٌ، وليس عنّا ببعيدٍ ما يفعله "حزب الله" وقائده تجاه مصر، مصر التي لا يعتبر هو وكامل جنوده شيئاً في حقّ أبطالها التاريخيين الذين سبقوا إلى الحقّ سراعاً، قبل أن يكون حزب الله شيئا مذكوراً، وعلى هذا فقس.