يتحدث الكاتب الفرنسي "جان كلود غلبو" في كتابه الصادر مؤخراً بعنوان"بداية عالم" عن مفهوم جديد هو "الحداثة الهجينة"، تعبيراً عن ما يعتبره نهاية انفراد الغرب بنموذج الحداثة وبروز حداثات بديلة في فضاءات ثقافية أخرى. ويرى "غلبو" أن الثقافة الأوروبية (التي أصبحت من بعد ثقافة أوروبية - أميركية) هيمنت على العالم منذ القرن السادس عشر، بعد أن تمكنت من اللحاق ببقية الحضارات، وبصفة خاصة الحضارة الصينية التي اكتشفت المطبعة قبلها بقرون ثمانية والحضارة الهندية التي سبقتها بقرون في اكتشاف حركة الأفلاك، التي هي نقطة انطلاق العلوم الفيزيائية الحديثة. ولقد بدأت الحضارات الأخرى تستفيق وتلج إلى الحداثة عبر مساراتها الخصوصية، من خلال استبطان إبداعي معقد لقيم الحداثة كالديمقراطية وحقوق الإنسان...في الوقت الذي فقدت الثقافة الغربية قوتها الاستقطابية المغرية. لا يتعلق الأمر هنا ببدائل نافية للحداثة الغربية على غرار التصورات النقدية للحداثة من منطلقات الخصوصية الحضارية، وإنما ببدائل من داخل حركية الحداثة نفسها القادرة على استيعاب التعددية القيمية والحضارية. فالإشكال المزدوج الذي تطرحه مسألة التحديث هو: ما هي القيم -الثوابت في الحداثة في ما وراء اختلافات حقول انطباقها؟ وهل يمكن بالتالي فصلها عن إطار مرجعها المركزي الذي هو السياق الغربي؟ وباعتقادنا أن هذا الإشكال المركزي لم يعالج في الفكر العربي، لأنه تم اختزاله إما في معضلة الهوية الثقافية في مواجهة الآخر، أو في التصور الإجرائي الضيق للحداثة بصفتها تسييراً علمياً للطبيعة وتسييراً عقلانياً للاقتصاد ولمجتمع العلم التجريبي زائد الرأسمالية. أما الكتابات النظرية الغربية التقليدية، فلا تفيدنا كثيراً في الرد على هذا الإشكال لصدورها عن خلفية مركزية ثقافية، يزيدها تعقيداً التماهي القائم في الوعي الغربي بين الحداثة وفكرة الكونية. صحيح أن فكرة الكونية ليست بالجديدة، ولها سجلان دلاليان قديمان في الثقافة الغربية هما الكونية اليونانية القائمة على فكرة العقل(اللوغوس) والكونية المسيحية على فكرة الذاتية. بيد أن الحداثة تتميز بفكرة الفردية التي تعني استقلالية الإنسان بصفته ذاتاً حرة عقلانية عن كل أنماط الانتماء المحددة سلفاً لهويته، سواء كانت دينية أو ثقافية. ولذلك أمكن القول إن الحضارة الحديثة، وإن كانت لم تبدع الكونية، إلا أنها أول حضارة تحررت من العرقية المركزية، وحولت النقد والتجاوز إلى مقومات لنظرتها الذاتية. ولهذا السبب برز تقليد فلسفي -اجتماعي من هيجل إلى اليوم يعرف الحداثة بمعيار الذاتية الذي تقوم عليه، بوصفه إطار النزعة الإنسانية الكونية، وعنصر القطيعة مع التصورات الدينية والاطلاقية المغلقة التي كانت سائدة في الثقافات القديمة. بيد أن انكسار قاعدة احتكار الغرب للحداثة ببروز حداثات ناجحة بديلة خارج السياق الغربي، فرض على الفكر الفلسفي والاجتماعي مراجعة النظرة السائدة عن المقومات المرجعية الثابتة لقيم الحداثة. ولا ينحصر هذا الحوار في الأدبيات التنموية الأخيرة (التي اعتمدتها صناديق التمويل الدولي بعد تردد طويل) التي أثبتت تأثير السياقات المحلية على النماذج التنموية، وأبرزها التجارب الآسيوية الناجحة (الهند ونمور شرق آسيا) التي قامت فيها نماذج رأسمالية رائدة على خلفية مركزية الدولة وقيادتها لعملية الإنتاج والتبادل الخارجي، على عكس التجارب الأوروبية والأميركية. وإنما للظاهرة خلفياتها الثقافية العميقة، التي بدأت في الآونة الأخيرة تستقطب اهتمام الباحثين. ولنكتفي هنا بالإشارة إلى دراسات "فرانسوا جوليان" للحداثة الصينية، التي بينت بصفة أساسية إمكانية قيام حداثة ناجحة ومستقرة خارج مقاييس الذاتية والعقلنة والكونية، التي يعتقد أنها هي ثوابت الحداثة ومرتكزاتها النظرية والمعيارية. ففي مقابل ثنائية المفهوم والموضوع، التي هي منطلق العقلانية الغربية، يبين "جوليان" أن الثقافة الصينية لا تعترف إلا بمستوى واحد من الواقع بأبعاد عديدة مترابطة لكن لا تمييز فيها بين المجرد والمادي. ومن هنا لا مجال فيها للذاتية بصفتها انزياحاً عن العالم، ولا للحقيقة بمعنى تطابق الفكرة وموضوعها، التي تعوضها مقولة "الأصالة" التي تتضمن الاختلاف وتعايش المتناقضات، ولا فكرة الكونية بالمفهوم الغربي التي تحيل إلى التشابه والتنميط. ويرى "جوليان" أن خصوصية النظام السياسي الصيني لا تنبع من تركة الاستبداد الشيوعي، وإنما من غياب فكرة الحرية كانفصال وقطيعة لغياب مقولة المفارق والمطلق، التي تفضي إلى تصور التحرر والانعتاق. فالصين من هذا المنظور، استطاعت أن تستوعب الجانب الأداتي التقني والمؤسسي من الحداثة ضمن سياقها المرجعي الذاتي،كما هو حال الهند واليابان ...إلا أن الأمر هنا لا يتعلق بنماذج بديلة عن الحداثة الغربية، بل بحداثات هجينة متجذرة في الأرضية الثقافية المحلية. فلماذا فشلت التجارب الحديثة في العالم الإسلامي، رغم انتمائها في العمق إلى نفس السجل الحضاري بالمفهوم الأوسع للمجتمعات الغربية (التقليد التوحيدي والإرث اليوناني)؟ يرى أحد الفلاسفة أن سبب المأزق الإسلامي كامن في الإحساس بالتفوق الروحي الذي يحدد إطار التعامل مع الروافد الثقافية الوافدة، في الوقت الذي لا يوجد في الثقافات الآسيوية فكرة أحادية الحقيقة وتجانس الهوية التي هي فكرة تشترك فيها كل الثقافات القائمة على الديانات التوحيدية الثلاث. بيد أن هذا الجواب لا يرد إلا جزئياً على الإشكال المطروح. والرأي الذي نأخذ به هو أن هذا المأزق متولد عن أسباب ثلاثة رئيسية يتعلق أحدها بالنموذج الحداثي نفسه، ويتعلق الباقي باختلالات في النسيج الثقافي الإسلامي. أما السبب الأول: فهو أن النموذج الحداثي ارتبطت به في تجاربه الأولى محددات إقصائية للآخر غير الغربي، أخذت أشكالاً خطابية وممارسات عدوانية. نذكر في الجانب الأول الأدبيات الاثنوغرافية والاستشراقية القديمة التي تقنن "سجن الهوية"، أي التمايز المطلق من موقع تفاضلي معياري بين الثقافات بحسب المرجعية التاريخية والحضارية الغربية، ونذكر في الباب الثاني الظاهرة الاستعمارية بآثارها المدمرة للثقافات والمجتمعات. ولا شك أن انهيار المركزية الثقافية للخطاب الحداثي يفتح آفاقا رحبة للسياقات الحضارية الأخرى. أما السبب الثاني: فيتعلق بالانفصال بين الفضاءين الإسلامي والأوروبي منذ القرن السادس عشر الميلادي، الذي لا يزال يحتاج الى دراسات معمقة لتحديد خلفياته العميقة بدل إرجاعها فقط إلى حدث سقوط الأندلس. فلماذا قامت الحداثة في الضفة الشمالية للمتوسط وحدها رغم خيوط التواصل والتداخل الكثيرة بينها والضفتين الجنوبية والشرقية التي يتحكم فيها المسلمون؟ ولماذا لم يفض التراكم المعرفي نفسه إلى النتائج ذاتها؟ أما السبب الثالث، فيتعلق بطبيعة مشاريع التحديث التي قامت في العالم الإسلامي، من حيث كونها قامت في الغالب على هاجس الخصوصية الثقافية دون السعي لتجديد التواصل مع المدونة الحضارية المشتركة للحداثة. يقول عالم الانثربولوجيا الفرنسي "كلود ليفي شتراوس" إنه اكتشف أن الإسلام جزء من العائلة الثقافية الغربية عندما بدا اكتشاف الثقافات الهندية الأميركية القديمة، واستغرب أن المسلمين يعتبرون الغرب آخر في قطيعة معهم. ولا شك أن المدخل لإعادة التفكير في مسألة الحداثة هو تجديد النظر في مفهوم الغرب نفسه الذي يحجب كونية الحداثة ويقلصها في ما يعتقد أنها خصوصيات ثقافية.