قبل حملته الانتخابية وخلالها، غامر باراك أوباما بانتقاد الحرب الأميركية على العراق، وعيْنه على مؤشرات توجه الرأي العام الأميركي الذي كان قد بدأ يجافي إدارة بوش، سواء بسبب أدائها العسكري المتعثر والمخيب في نهاية المطاف، أو نتيجة لما اتضح أنها أكاذيب قدمتها لتبرير قرار الحرب. وبعد تسلمه مقاليد السلطة مباشرة بادر إلى إصدار قرار بسحب القوات الأميركية من العراق، وحتى دون أن يكلف نفسه مشقة اختيار مبعوث له هناك. لكن في مسرح آخر من مسارح حروب "المحافظين الجدد"، كان لأوباما موقف مختلف؛ فقد تعهد بصرف الجهود الأميركية في العراق إلى خوض الحرب الأكثر أهمية في نظره، وهي الحرب في أفغانستان وباكستان، فأعلن في الثاني والعشرين من يناير المنصرم، أي بعد يومين من تنصيبه، أن من أسماهم المتطرفين الإسلاميين في باكستان وأفغانستان يشكلون تهديداً خطراً يجب أن تعالجه إدارته، في إطار استراتيجية جديدة تتضمن فرصاً أوسع للشعبين... والمناسبة تعيينه ريتشارد هولبروك مبعوثاً خاصاً له إلى أفغانستان وباكستان، وهي مهمة في غاية الصعوبة، إلى حد لم يسمح لهولبروك نفسه بإخفاء تأثره حين اختاره لها أوباما، لكن المسؤولين في إسلام آباد وكابول أشادوا بمواهب المبعوث الأميركي وحسن درايته بالوضع في المنطقة. وهولبروك الذي يلقب "كيسنجر البلقان"، هو دبلوماسي أميركي مرموق وكاتب استراتيجي رفيع المستوى، قضى معظم حياته المهنية متنقلا بين الدبلوماسية ووول ستريت. ورغم عمله الطويل في المجال الدبلوماسي، إلا أن نجاحه المميز كان في عام 1995، عندما أشرف على اتفاق سلام "دايتون" لإنهاء الحرب الأهلية في البوسنة، ما جعله أحد المرشحين لتولي وزارة الخارجية الأميركية عام 1997، إلى جانب وارين كريستوفر ومادلين أولبرايت، لكنها في النهاية كانت من نصيب الأخيرة. غير أنه عمل مندوباً لبلاده في الأمم المتحدة حتى عام 2001، وكان المستشار الرئيس لحملة المرشح الديمقراطي لانتخابات الرئاسة عام 1994 جون كيري، قبل أن ينضم إلى حملة هيلاري كلينتون الداخلية عام 2008 كمستشار لشؤون السياسة الخارجية، ومرة أخرى رشحته توقعات مختلفة لتولي حقيبة الخارجية، سواء في وجود كلينتون أو أوباما، لكن مرة أخرى أيضاً لم تكن الوزارة من نصيبه فذهبت إلى حليفته هيلاري. ولد ريتشارد شارلز آلبرت هولبروك في نيويورك عام 1941، وتخرج من جامعة براون عام 1962، ليلتحق بالسلك الدبلوماسي في العام نفسه، حيث خضع لدورة في اللغة الفيتنامية، غادر بعدها لينخرط في تراجيديا الوحل الفيتنامي، وهناك عمل إلى جانب جيل من الدبلوماسيين الشباب الذين سيكون لهم شأن كبير في السياسة الخارجية الأميركية، مثل جون نيجروبونتي، واستوني لايك، وفرانك جي، وبيتر تارنوف. وبعد مشاركته في مفاوضات باريس مع الثوار الفيتناميين عام 1969، عاد ليعمل كزميل في جامعة برينستون، وليترأس تحرير مجلة السياسة الخارجية، ثم عمل خلال عام 1976 في البيت الأبيض تحت رئاسة جيمي كارتر كمنسق لمجلس الأمن القومي، لكنه في العام التالي أصبح مساعداً لوزير الخارجية لشؤون شرق آسيا والباسفيك، كأصغر شخص يتولى ذلك المنصب، وظل فيه حتى عام 1981 حين انضم إلى مصرف الأعمال الشهير "ليمان براذرز"، إلى أن استدعاه كلينتون عام 1993 فعينه سفيراً في ألمانيا. وفي عام 1995 تولى مهام مساعد وزير الخارجية للشؤون الأوروبية، فقام بعدة زيارات ليوغسلافيا السابقة، وأدى دوراً بارعاً في المفاوضات الماراثونية التي جرت في قاعدة دايتون العسكرية في أوهايو وأفضت إلى توقيع اتفاق سلام بين الفصائل المتحاربة في البوسنة. وهو الاتفاق الذي أثنت عليه الصحافة الأميركية كدليل على ما يتمتع به هولبروك من "طاقة وعزيمة في مواجهة زعماء الحرب". وقد كتب هولبروك نفسه عن الاستراتيجية التفاوضية التي اعتمدها لإنجاز اتفاق "دايتون"، كمجموعة من القواعد قابلة للتطبيق في أزمات مختلفة. ومهما يكن السجل الدبلوماسي لهولبروك وقدراته التفاوضية، فمهمته الحالية تبدو في غاية الصعوبة، فالوضع في أفغانستان وباكستان، وشبه القارة الهندية عموماً، يتسم بتعقيدات غير قليلة، خاصة مع استمرار الفشل الأمني والسياسي في أفغانستان، وعودة التوتر بين الهند وباكستان. فقد أخفقت قوات "الناتو" إلى الآن في فرض سيطرتها على الأرض وإنهاء نفوذ حركة "طالبان"، كما لم تصل محاولات التفاوض بين الحركة وحكومة كرزاي إلى أمل في إيجاد مخرج من دوامة العنف. وفيما تعتبر كابول وواشنطن معاً أن الجزء الأكبر من المشكلة الأفغانية تمتد جذوره ومصادر استمراره داخل باكستان، فإن هذه الدولة النووية والحليفة للولايات المتحدة، تواجه طيفاً من المصاعب والتحديات المتفاقمة، الأمنية والاقتصادية والسياسية، كصعود الظاهرة الأصولية، والتهديد الإرهابي المباشر، وحركات التمرد في منطقتي وادي سوات ووزيرستان، فضلا عن متاعب الوضع الاقتصادي المتردي، أي جملة الإشكالات التي تجعل الأزمة الباكستانية أشبه بحلقة مفرغة. وإلى ذلك ما زال وضع النظام السياسي في إسلام آباد يثير قلقاً خاصاً في واشنطن، رغم الانتخابات الديمقراطية التي أزاحت برويز مشرف وأتت بعاصف زرداري إلى سدة الرئاسة. لكن إحدى معضلات تحالف الجانبين أنه بقدر ما يمثل ضرورة سياسية واقتصادية وأمنية لتعزيز قوة نظام الحكم الباكستاني، فهو يضر إلى حد ما بصورته في أذهان شرائح من شعبه، لاسيما مع استمرار الضربات العسكرية الأميركية في المناطق القبلية. غير أن ما يقلق الباكستانيين أكثر من ذلك، وينعكس تالياً على الوضع الداخلي، هو التحالف الأميركي الهندي، والذي ترجمته الاتفاقات النووية بين نيودلهي وواشنطن منذ بضعة أشهر، ثم أظهرته بجلاء ردود الفعل الأميركية على تفجيرات مومباي نهاية نوفمبر الماضي. وأمام هذا الوضع المتشابك والملتبس، تتداخل الأولويات الأميركية وتفقد الرؤية كثيراً من وضوحها، ما يحتم على هولبروك ابتكار أفكار خلاقة وحلول غير تقليدية، لتطبيع الموقف، وهزيمة الخصوم، وتقوية الحلفاء، وإنهاء تناقضاتهم المشتعلة... على نحو يحقق المصالح الأميركية ويحافظ عليها. فهل يتمكن من إزالة فتيل التأزم في علاقات المثلث الأفغاني الباكستاني الهندي؟ وكيف يكرر نجاحه في البلقان؟ أو بعبارة أخرى: هل يكون "كيسنجر أفغانستان"؟ محمد ولد المنى