بالنظر إلى الوضع الإنساني الذي خلفه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وعند الاستماع إلى التعليقات الصادرة عن إسرائيل والعالم العربي ومؤيدي إسرائيل هنا في الولايات المتحدة الأميركية، يشعر المرء بكثير من القلق على مستويات شتى. وأكثر ما يثيره، إخفاق المدافعين عن مواقف كلا الطرفين في النظر إلى الأبعاد الإنسانية التي خلفتها هذه التراجيديا المروعة للحرب في القطاع. والمقصود هنا الفشل في رؤية التداعيات بعيدة المدى لمأساة الحرب. فعدد القتلى يتجاوز الـ1300 قتيل، بينما تجاوز عدد الجرحى والمصابين الـ5 آلاف، إضافة إلى آلاف آخرين من النساء الحوامل ومرضى السرطان وغيرهم، ممن عانوا أشد المعاناة بسبب حرمانهم من تلقي الرعاية الصحية التي يحتاجونها بسبب ظروف الحرب. أضف إلى ذلك تدمير آلاف المنازل، ما يؤثر سلباً على حياة وممتلكات مئات الآلاف من سكان القطاع. وبسبب ترابط العلاقات الأسرية وارتفاع الكثافة السكانية في القطاع، فما من فرد واحد من أفراد المجتمع الفلسطيني، لم يتأثر بالعواقب الكارثية للنزاع الأخير، سواء مسته الحرب مباشرة في أحد أفراد عائلته أم في نفسه أم في ممتلكاته. وأقل ما طال الأفراد من جراح هذه الحرب، الآلام النفسية العميقة التي يثيرها واقع المأساة المحيطة به من كل جانب. والمجتمعات كما نعلم شأنها شأن الكائن الحي، إذا "اشتكى منه عضو واحد، تداعت له سائر أعضاء الجسد بالسهر والحمى". ولا تقتصر هذه الحقيقة على المجتمع الفلسطيني وحده، وإنما تشمل كافة المجتمعات البشرية. وعليه فإن المتوقع أن تبقى جراح وآلام هذه الحرب محفورة في نفوس أجيال عديدة مقبلة من الفلسطينيين، إلى جانب بقائها عميقة وغائرة في نفوس من تأثروا بها من ضحايا الحرب الناجين. وليس ذلك فحسب، بل إن هذه الآلام تتخطى حدود غزة، لتجد طريقها إلى نفوس الكثيرين على امتداد العالم العربي كله. وهذا أمر يستوجب الاهتمام به والتصدي لعلاجه في مرحلة ما بعد الحرب. فليست الحاجة الماسة والعاجلة هي التصدي للدمار المادي والمساعدات الإنسانية التي يحتاجها سكان القطاع الآن وحدهما، وإنما من الواجب كذلك الانتباه إلى آلام الصدمة النفسية التي خلفتها الحرب في نفوس فلسطينيي غزة. وعلى رغم شراسة هذه الحرب وفداحة الدمار الذي خلفته وراءها، إلا أنه من الأهمية بمكان، أن نتذكر أنها ليست سوى الحلقة الأخيرة من سلسلة طويلة من الفظائع التي ظلت ترتكب بحق الفلسطينيين منذ عقدي الثلاثينيات والأربعينيات، مروراً بحروب 1948 و1967و1973 ثم مذابح عام 1982، مروراً بالآلام التي عرفتها الانتفاضتان الفلسطينيتان، وصولاً إلى العدوان الأخير. فكل هذه صدمات نفسية متكررة ومتراكمة. وعند النظر إلى نتائج هذه الحرب الأخيرة، فإن ما يثير تقززي واشمئزازي مواقف الأيديولوجيين الإسرائيليين المتطرفين الذين اختزلوا فظائع الحرب إلى مجرد "درس لابد منه" تعلمته إسرائيل، بالقدر ذاته من الاشمئزاز الذي يثيره متطرفو حركة "حماس"، الذين رأوا في كل هذا الدمار الهائل الذي خلفته الحرب، انتصاراً مزعوماً للحركة! وفي المقابل يدعو للتفاؤل حديث الرئيس أوباما المتعاطف مع ضحايا غزة، وتعبيره عن تفهمه لأهمية التصدي لتحقيق الحلم الفلسطيني. غير أن مما يسوؤني أن أميركا لم تتحرك بعد بما يتطلب التصدي لمآسي الفلسطينيين الناجين من ويلات الحرب. وفي هذا السياق من الواجب تسريع الاستجابة للرسالة المكتوبة التي وجهها إلى وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون 64 عضو من أعضاء الكونجرس، مطالبين بسرعة التصدي لما وصفوه بالأزمة الإنسانية في قطاع غزة، والصدمة النفسية التي يعانيها الناجون من الحرب. وإن كان قد فات الولايات المتحدة أن تحول دون اندلاع الحرب، أو إنقاذ من أزهقت أرواحهم برصاصها ونيرانها من الفلسطينيين، فإن الوقت لم يفت بعد لمواساة جراح وآلام الناجين. وفي ذلك فإن أميركا مطالبة بأن تبذل جهداً إنسانياً شبيهاً بذلك الذي بذلته في أعقاب كارثة التسونامي الشهيرة.