السجال الحقيقي بشأن حزمة الحوافز المالية التي اقترحها أوباما لم يبدأ بعد، خصوصاً وأن الكونجرس لن يقوم بتمريرها -بالصورة التي أرادها أوباما- قبل أسبوعين من الآن. ويقول الخبراء إن الرئيس سوف يجد نفسه وجهاً لوجه أمام القرارات الحقيقية عندما تبدأ الدورة الاقتصادية في الارتفاع مرة ثانية، بداية العام المقبل، إذ سيتعين عليه مثلا أن يحدد بنود الإنفاق التي ستستمر وتلك التي ستتوقف. منذ 16 عاماً، جاء بيل كلينتون إلى واشنطن حاملا معه خططه الطموحة الخاصة بعكس اتجاه عدم المساواة المتزايد، وإعادة بناء البنية الأساسية المتداعية، وبناء نظام صحي كفء ومتاح للجميع، ومعالجة الأزمة البيئية المتفاقمة. لكن ما حدث في ذلك الوقت هو أن كلينتون لم يتمكن من إنجاز معظم خططه بسبب العجز الكبير في الموازنة، والارتفاع الهائل في حجم الدين العام، مما أصابه بإحباط شديد آنئذ. بعض جوانب خطة أوباما للتحفيز المالي تبدو مألوفة لي بشكل يدعو للقلق في الحقيقة، وتذكرني ببعض جوانب خطط كلينتون وما حل بها، والإحباط الذي شعرت به جراء ذلك حيث كنت أشغل منصب وزير العمل في إدارته. هناك بالطبع بعض جوانب الاختلاف بين الخطتين، منها مثلا أن التكلفة المالية لخطة أوباما تفوق بما لا يقاس خطة كلينتون، وأن معظم الاقتصاديين وخبراء المال في الوقت الراهن يؤيدون أوباما في خطته، على عكس الحال أيام كلينتون. أما أكبر الاختلافات بين أجندة كلينتون الأصلية وأجندة أوباما فهي أن كلينتون قد جاء إلى الحكم بينما كان الاقتصاد الأميركي خارجاً لتوه من فترة كساد، في حين أن أوباما يأتي إلى الحكم والاقتصاد يواجه أخطر انكماش منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي. يتفق معظم الخبراء الماليين، بمن فيهم المحافظون، على أنه عندما يتوقف المستهلكون عن الشراء، وتتوقف المشروعات عن الاستثمار، فإن الحكومة يجب أن تتدخل سواء كمشتر أو كبائع. وعندما يبدأ الاقتصاد في التعافي، والخروج من أزمته المرضية، فإن المحافظين يطلبون من الحكومة عادة أن تخفض إنفاقها لأن هذا من وجهة نظرهم هو الأسلوب الأمثل لإعادة الاقتصاد إلى مساره المعتاد. ويمكننا أن نطلق على هؤلاء الذين يرون في حزمة الحوافز إجراءً يائساً لإنقاذ الاقتصاد من التردي في هاوية الانكماش اسم "الدورويين"، كما يمكن أن نطلق على الآخرين -بمن فيهم أنا شخصياً- الذين يرون أن هذه الحزمة ليست سوى خطوة أولى ضرورية على طريق طويل يهدف لمعالجة نواحى الخلل والقصور في بنية الاقتصاد، "البنيويون". ورغم أن الفريقين يقفان وارء حزمة الإنقاذ حالياً فإن ذلك لن يستمر طويلا. فمن المعروف أن "الدورويين" يلقون باللائمة في حدوث تلك الأزمة على فقاعة المضاربات التي جعلت الآليات التي تساعد الاقتصاد على تنظيم نفسه ذاتياً تتوقف عن العمل. ويذهب هؤلاء إلى أننا نستطيع تجنب حدوث أزمات شبيهة في المستقبل، إذا ما قام الاحتياطي الفيدرالي، مبكرا، بثقب الفقاعة من خلال رفع أسعار الفائدة عندما تشتعل المضاربات. أما "البنيويون" فرغم موافقتهم على أن انفجار فقاعة الرهن العقاري هو الذي قادنا إلى الأزمة الحالية، فهم يرون أن المشكلات الأساسية التي كانت تواجه الاقتصاد قد بدأت قبل ذلك بوقت طويل، وتحديداً في أواخر سبعينيات القرن الماضي عندما بدأت مداخيل الأسر الأميركية المتوسطة تتجمد تقريباً، بسبب عاملين تحالفا عليها حينئذ هما المنافسة العالمية والتقنيات الجديدة. وعندما عجزت تلك الأسر عن المحافظة على مستويات معيشتها، لم يكن أمامها سوى الاقتراض لتلبية حاجاتها، وهي سياسة كانت تبدو قابلة للاستمرار طالما كانت أسعار المنازل في صعود. وعندما انفجرت فقاعة الرهن العقاري لم يعد بإمكان تلك الأسر الحصول على ائتمان أو قروض عقارية جديدة. وهناك أسباب أخرى لتلك الأزمة منها التغير المناخي، والاعتماد المتزايد على النفط المستورد من الخارج، واعتماد الولايات المتحدة على رأس المال الأجنبي، والاستنزاف الهائل من جانب النظام الصحي لمواردنا. ورغم أن "الدورويون" يقرون بتلك الأسباب، فإنهم يميلون، مع ذلك، إلى التفكير فيها بمعزل عن الأزمة الحالية، ويعتبرونها موضوعات قابلة للمعالجة بعد أن يتعافى الاقتصاد، على العكس من "البنيويين" الذين يؤمنون بأن الاقتصاد لا يمكن أن يتعافى ما لم نعالج تلك المشكلات الرئسية أولا. أين يقف الرئيس أوباما من هاتين الرؤيتين وأيهما سيختار؟ الإجابة على هذا السؤال، كما يقول "ويل مارشال" من معهد "بروجريزيف بوليسي"، سوف تمثل "الدراما المركزية" لعهد أوباما برمته. بيد أن الرئيس بحاجة ماسة الآن إلى فتح سجال أوسع نطاقاً في هذه المسألة اليوم قبل الغد، لأن الانكماش الحالي يكشف عن مواطن الخلل الجوهري في الاقتصاد الأميركي، ولأن الجمهور الأميركي وممثليه سوف يكونون أكثر ميلا -عندما تعود الدورة الاقتصادية إلى الارتفاع مجدداً- إلى تناسي معالجة تلك المشكلات التي تجذبنا للأسفل والتي تفوق بما لا يقاس تلك التي كانت موجودة أيام إدارة كلينتون. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ روبرت رايتش وزير العمل في إدارة بيل كلينتون وأستاذ السياسات العامة في جامعة كاليفورنيا -بيركلي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"