رسالة "الخميس الأسود" في فرنسا... وإمكانية "كامب ديفيد" فلسطينية! ------------- رسالة إضرابات "الخميس الأسود" في فرنسا هذا الأسبوع، وإمكانية احتواء القوى المتشددة في صراع الشرق الأوسط، وغروب شمس التيار المحافظ الأميركي مع مجيء أوباما، موضوعات ضمن أخرى حضرت بقوة في صفحات رأي الصحف الفرنسية. ------------- الخميس الأسود... بداية الاحتكاك: اكتسحت الإضرابات العامة التي اجتاحت فرنسا يوم الخميس 29 يناير المنصرم افتتاحيات الصحف باعتبارها أقوى احتكاك إرادات يحدث لحد الآن بين الرئيس ساركوزي وحكومته من جهة، والنقابات وأحزاب اليسار من جهة أخرى. في افتتاحية كتبها ديدييه بوركيري لصحيفة ليبراسيون قال إن إضرابات ما سمي "الخميس الأسود" الاستعراضية أثبتت أن شهر العسل والمهادنة بين ساركوزي والشركاء الاجتماعيين من نقابات وأحزاب معارضة قد أدرك الآن نهايته. ذلك أن الأوضاع الراهنة، حيث تترنح سفينة فرنسا الاقتصادية والمالية في كل الاتجاهات، يحتم أن يكون ربان هذه السفينة حاذقاً وبارعاً في تفادي المآزق والمطبات، ومستعداً للاشتباك مع أدق التفاصيل. ومن الواضح أن ما تريده النقابات العمالية الفرنسية التي احتجت يوم الخميس هو أن تجد من يعيرها أذنه، ومن يستطيع الدخول معها في حوار بناء، ويستطيع تحديد الأولويات السياسية والاجتماعية في فرنسا اليوم. إنها لحظة الحقيقة إذن تدق، فليس الوقت وقت الحديث عن "الإصلاح" الاقتصادي المستهلك، بل إن الأولوية الآن هي لوضع استراتيجية أزمة اقتصادية تكون في مستوى التحديات التي يواجهها الفرنسيون في قدرتهم الشرائية وفي شرطهم الاجتماعي الاقتصادي العام. ولاشك أن استراتيجية منشودة كهذه لا يمكن أن ينهض بها سوى فريق حكومي مسؤول ذي استقلالية في الرأي. ولاشك أن آخر من يستطيع ذلك طبعاً هو قيصر يحيط به باروناته من كل حدب وصوب. وفي افتتاحية كتبها في السياق ذاته باتريك آبل- موللر لصحيفة لومانيتيه اعتبر أن الزخم الذي اكتساه استحقاق "الخميس الأسود" يدلل بجلاء على أن ثمة شعوراً بالاستياء على نطاق واسع في فرنسا من الحالة الاجتماعية الاقتصادية القائمة، وكذلك على أن محاولات الالتفاف الإعلامي لتسويقها لم تؤد الغرض. وفي سياق متصل قال باتريك فلوكيجر في افتتاحية أخرى في "لالزاس" إن على المرء أن يكون فرنسياً ليفهم أن يوم حشد شامل للإضراب كذلك الذي عرفته فرنسا هذا الأسبوع يشبه من أوجه عديدة الفندق الإسباني: حيث يستطيع كل أن يأتي بما شاء من أغراض. وفي أجواء أزمة اقتصادية طاحنة يغدو مفهوماً أن يطفح الشارع بكل أشكال التبرم والاحتجاج والاستياء كائناً من كان من يعمل للتعبئة للإضراب. وقد بات واضحاً تماماً أن رهان النقابات واليسار هو عرقلة "إصلاحات" ساركوزي على المدى البعيد، وبأي ثمن، وهذه هي المحصلة والرسالة. غزة: النموذج الإيرلندي... باب ضيق للخروج: تحت هذا العنوان كتب المحلل السياسي الشهير ألكسندر أدلر مقاله الأسبوعي في صحيفة لوفيغارو، الذي استهله بأن الرئيس الأميركي الجديد لو كان أعطي الخيار فيما يتعلق بأسبقيات ملفات الشرق الأوسط لكان فضل البدء بالملف الإيراني. ولكن ضغوط حرب غزة فرضت عليه الاهتمام بالملف الفلسطيني/ الإسرائيلي منذ يومه الأول في البيت الأبيض، ويتوقع أن تكون بدايته الفعلية مع محاولات إيجاد حل له مباشرة في اليوم التالي للانتخابات الإسرائيلية هذا الشهر. وليست ثمة حاجة إلى التذكير بماراثون المساعي السابقة وجولات التفاوض السرية والعلنية، التي كانت في كل مرة -على طريقة لعبة المربعات السحرية- بقدرما تتوصل إلى اتفاقات محددة بقدرما تتهاوى عند أول استحقاق إرادات أو نوايا. ومثلما أن حركة "حماس" لم تخرج منتصرة من حرب غزة الأخيرة فإن احتواءها أيضاً ما زال أمراً ضرورياً. ولعل سبب عدم طردها من السيطرة على القطاع هو أن أحداً لا يريد وضع يده على غزة والتورط في مأزق تسييرها المستحيل. والحال أن الواقع القائم الآن في الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي شديد الشبه بما كانت عليه المسألة الإيرلندية في عشرينيات القرن الماضي، حيث كانت لندن قد توصلت ذاتياً لقناعة بضرورة تقاسم الجزيرة مع المعتدلين في صفوف التمرد الإيرلندي حينها، ولكنها وجدت نفسها فيما بعد في مواجهة مع أغلبية تعارض هذا الخيار. وليس من قبيل المفارقة أن السيناتور السابق جورج ميتشل الذي حقق لإدارة كلينتون إنجازها التاريخي لإنهاء الصراع الإيرلندي، هو ذاته الذي وقع عليه الاختيار اليوم مبعوثاً أميركياً إلى الشرق الأوسط. ويذهب ألكسندر أدلر إلى أن هنالك الآن منفذاً ضيقاً قد يتيح إمكانية تجاوز الانسداد الحالي في مسار عملية التسوية. ولنسمِّ هذا المخرج بـ"لكودة" حماس -أي جعلها تتبع استراتيجية شبيهة بتلك التي يتخذها حزب "الليكود" اليميني الإسرائيلي. فذلك الحزب معروف عنه معارضته القوية لفكرة قيام الدولة الفلسطينية، تماماً كما ترفض "حماس" الاعتراف بوجود شيء يسمى إسرائيل، ولكن لأن زعماء الحزب اليميني لا يريدون خسارة جمهور الناخبين الإسرائيليين الذين تريد أغلبيتهم إنهاء الصراع، لذلك يبدون استعداداً للدخول طرفاً في عملية تسوية للصراع لا تتماشى مع إيديولوجيتهم. وهذا ما تستطيع "حماس" فعله أيضاً، بحيث لا تعيق مساعي السلطة الفلسطينية للعمل على إيجاد تسوية كذلك. وقد تحدث بعض قادة "حماس" فعلاً قبل مدة عن إمكانية توقيع هدنة لمدة 30 عاماً مع إسرائيل، وهو ما أعادوا تكراره خلال الفترة الأخيرة أيضاً، وهذا خيط مهم يمكن تطويره والبناء عليه، تماماً كما وقع مع فتوى شيخ الأزهر الشهيرة للسادات سنة 1977 بشرعية عملية السلام مع "العدو" وفق اشتراطات عقائدية وموضوعية وزمنية. وبعد مرور 30 سنة يكون الواقع على الأرض قد تكشف عن معطيات وحقائق جديدة متولدة عن عملية "صلح" مديدة، ستسمح بتجديد "الهدنة" بدل التفكير في العودة للصراع. خطة أوباما... ونعي "التيار المحافظ": في صحيفة لوموند نقرأ تحليلاً لكورين لينز يستعرض الأجواء السياسية السائدة الآن في واشنطن بعد أسبوع من رئاسة أوباما مع تركيز خاص على التجاذب المتوقع في الكونجرس على خطة الإنقاذ الاقتصادي التي يسعى من خلالها سيد البيت الأبيض الجديد للتغلب على تحديات الأزمة المالية. ويتوقف التحليل ابتداءً عند الحالة التي يجد فيها أعضاء الكونجرس الأميركي "الجمهوريون" أنفسهم الآن، وقد فقدوا السلطة في البيت الأبيض وأصبحوا أقلية في مبنى الكابتول أيضاً. وهو موقف لا يحسدون عليه بكل المقاييس، وقد وصل بهم الشعور بالفجيعة السياسية حداً دفع الكاتب المحافظ الشهير ويليام كريستول إلى نعي عهد "المحافظين" في واشنطن في مقال نشره يوم 20 يناير المنصرم في صحيفة "نيويورك تايمز" تباكى فيه على الريغانية، قائلاً إن لكل الأشياء الجميلة نهايات، وإن هذا هو حال أميركا العهد المحافظ اليوم فقد حلت نهايتها الأليمة. وللطرافة فقد استغنت أيضاً "نيويورك تايمز" في ذات المناسبة عن قلم "كريستول نفسه. ويرجح المقال أن محاولات أوباما تمرير خطة الإنقاذ لن تجد أية عراقيل نظراً لتفوق "الديمقراطيين" العددي في كلتا غرفتي البرلمان، كما أن سعيه للظهور بمظهر الرئيس المتسامي على السجالات الحزبية التقليدية من شأنه أن يسهل مهمته في التعالي مع منافسيه السياسيين في الحزب "الجمهوري" الجريح، ذي الشمس الغاربة. إعداد: حسن ولد المختار