توالت الانتقادات على ورقة الأستاذ فهمي هويدي في لقاء عمّان الذي أشرنا إليه، والذي عقد في الأردن في فبراير 1988، وصدرت أوراقه ضمن كتاب "العرب وتحديات القرن الحادي والعشرين". ولقد أشرنا في المقالين السابقين إلى خلاصة ورقة أ. هويدي وملاحظاتنا عليها. والآن نحاول أن نستعرض ونناقش بعض التعقيبات والمداخلات. د. عبدالله العكايلة، النائب البرلماني والأستاذ الجامعي والوزير السابق للتربية والتعليم في الأردن، عارض تفاؤل أ. هويدي في مداخلته، "فقد قال الأستاذ في الصفحة الأولى من ورقته، إن نهاية القرن العشرين، سجلت حالة إسلامية أفضل بكثير من بداية هذا القرن، وأنا قد أخالفه هنا، إذ كانت بداية هذا القرن قوية سواء بمدها القومي أو بمدها الإسلامي الذي كان حديث عهد بالاستعمار وبالقوى التي انهارت على أيديها الخلافة. وكانت الثقة في بداية هذا القرن ببعث الدولة الإسلامية قوية أيضاً، وأصبح الأمل في نهاية هذا القرن بكل ألم وبكل أسف أبعد بكثير من أملنا في بداية هذا القرن لبعث الدولة الإسلامية وفكرة الدولة الإسلامية". وأضاف العكايلة، إن الحالة الإسلامية التي نعيشها فيها بواكير أمل، ولكن "الحركة الإسلامية لم تتسلح بوسيلة علمية ولا بخطة منهجية، تواجه بها المشروع الصهيوني من جهة وتعمل على بعث الدولة الإسلامية من جهة ثانية". وطرح د. العكايلة ملاحظة في غاية الأهمية في الممارسة العربية والإسلامية تستحق التأمل من القارئ فعلاً، قال"وبالنسبة للحضور الإسلامي للحركة الإسلامية أو للوجود الإسلامي على الساحة العربية -وقد استشهد الأستاذ فهمي هويدي بلبنان وفلسطين- سنجد أنه في هذين القطرين إنما هو بفعل القوة العسكرية، لا بفعل محاججة القوة السياسية والفكر والنموذج الحضاري الإسلامي. ومع أننا دائماً نشمخ بالنموذج الحضاري الإسلامي، لكننا نركز دائماً على القوة العسكرية في الحضور الإسلامي، وكنا نرغب في أن يكون هذا الحضور حضوراً حضارياً في تركيا وحضوراً حضارياً في الجزائر وفي كل الأقطار الإسلامية الأخرى". وفي اعتقادي أن ملاحظة د. العكايلة هذه رد شامل على العديد من "النقاط الإيجابية" التي رآها الأستاذ فهمي في التيار الإسلامي بمصر وغيرها، فكم هو صعب حقاً، أن يتحول "الحضور الإسلامي"، إلى "حضور حضاري" منافس! وتحدث د. العكايلة عن التطور السياسي في موقف الإسلاميين من الديمقراطية وظاهرة مشاركتهم في الحكم في بعض الدول فقال: "كنا قبل سنوات نعتبر الديمقراطية كفراً، وقد كان المشايخ يرعبوننا حين نقول "ديمقراطية"، كانت تعتبر كفراً لدى كثير من الذين ربوا الشباب في الصحوة الإسلامية. وفي اعتقادي أن الحركة الإسلامية تحركت نحو فهم الغرب أكثر مما تحرك الغرب نحو فهم الحركة الإسلامية، بل على العكس تماماً، الغرب تحرك للاجهاز على الحركة الإسلامية، في حين تحركت الحركة الإسلامية بهدف فهم الغرب والتعامل معه. إذن فنحن قطعنا شوطاً كبيراً في الفقه السياسي: كنا لا نؤمن إطلاقاً إلا بأخذ السلطة، فإذا بنا ننتقل إلى المشاركة في السلطة، كان الخياران الوحيدان المتاحان للحركة الإسلامية في فترة سابقة من الزمن، إما أخذ السلطة أو تركها كلياً، لكن الانتقال إلى المشاركة فهو يشكل فعلاً فقهاً جديداً". ولكن د. العكايلة "المستنير" انحاز مع طرح الجماعات الإسلامية في نقطتين، فدعا المرأة المسلمة إلى تقبل مبدأ تعدد الزوجات.ثم عاد، كما هو ملاحظ لدى الكثير من المثقفين العرب والمسلمين، فناقض نفسه فقال في نفس المداخلة: "إذ جاز لي أن أضع ملامح للخطاب الإسلامي في القرن الحادي والعشرين، وما يجب أن يكون عليه... فلابد أن يتسم الخطاب الإسلامي بالواقعية أو البراغماتية، وأن يبتعد عن المثالية والرومانسية والخيالية"! ويبدو واضحاً أن الأستاذ الفاضل لم يتأمل بما فيه الكفاية مشاكل الأسرة العربية والإسلامية المعاصرة، ولا أخذ بالاعتبار واقع المرأة وطموحاتها ورغبتها في الخروج من شرنقة الأفكار والأوضاع القديمة. ويعجب القارئ حقاً أن يكون د. العكايلة بهذه الدرجة من الوعي والخبرة السياسية وبهذه المعايشة لأوضاع المرأة العربية والمشاكل الاجتماعية ولانعكاسات تعدد الزوجات على تربية الطفل العربي، بحكم كون د. العكايلة وزيراً سابقاً للتربية في المملكة الأردنية الهاشمية، وأن يكون ربما من مناصري بعض الأحزاب القومية، ثم لا يجد بعد ذلك شيئاً يقترحه في قضايا وأوضاع الأسرة والمرأة العربية، سوى مناشدتها بأن تتقبل تعدد الزوجات بصدر رحب! فأين موقع هذه المطالبة والمناشدة من الواقعية والبراغماتية التي يطالب العكايلة، التيارات الإسلامية باتباعها والسير عليها؟ يقول في مداخلته حرفياً: "بالنسبة لقضية المرأة فأنا أعتقد بأننا قدمنا نماذج كثيرة جداً باقتناع وليس من باب الإذعان لمتطلبات الغرب الهزيلة في إنصاف المرأة. قدمنا نماذج كثيرة، ولا زال الوقت أمامنا كي نقدم في هذا المجال. نريد فقط أن تقبل المرأة ما يعطيها الإسلام، كل ما يعطيها الإسلام، بما في ذلك مبدأ تعدد الزوجات". أما كان الأجدر به لو طالب من فوق تلك المنصة، بإنصاف المرأة الأردنية في المدن والأرياف والبوادي بـ"ما يرضي الله ورسوله"؟ أما كان باستطاعته مثلاً أن يطالب بحماية المرأة من ظلم وعنف الذكور في عائلتها ومجتمعها؟ وبخاصة من "جرائم الشرف" الدائمة الوقوع في الأردن؟ بل التي يتبين في أحيان كثيرة، لدى فحص الجثة، بأن الفتاة الضحية عذراء بريئة! ومن المؤسف كذلك أن يحكم د. العكايلة على متطلبات إنصاف المرأة التي ينادي بها الغربيون بأنها "هزيلة"! وبأن حقوق ومكاسب المرأة الأردنية والعربية والإسلامية من الاتساع والرسوخ، بما لا تحتاج معه أي امرأة من هؤلاء إلا بأن تحاول ليل نهار أن تقنع نفسها بـ"مبدأ تعدد الزوجات"، وكأن هذا المبدأ أهم مطالب الإسلام إزاء المرأة! يقول د. العكايلة في نفس المداخلة: "نحن عشنا في الغرب ودرسنا في الغرب". ولا أدري لِمَ لم يلتفت آنذاك إلى حقوق النساء ومستواهن المعيشي والتعليمي والصحي ودخلهن السنوي، وما يتمتعن به من تقدير في المجتمع الأوروبي والأميركي والكندي والأسترالي أو أي بلد آخر درس فيه السيد الوزير! ثم قارَنَ ذلك الواقع وذاك المستوى، وهو المطالب بالواقعية والبراغماتية، بواقع ومكاسب وحقوق المرأة العربية، والمرأة في دول إسلامية ضخمة كإندونيسيا وبنجلاديش وباكستان وأواسط آسيا وغيرها! ثم أما كان عليه كذلك، أن يغوص قليلاً في أدبيات المرأة لدى الجامعات الإسلامية، والنصوص الرائجة في أوساطهم، وأفكارهم الغارقة في التخلف في مجال التعامل معها، ثم يسأل نفسه كأي باحث موضوعي: كيف يمكن لمجتمع يعيش نصفه بهذه العقلية، وتسيطر مفرزاتها على النصف الآخر منه.. أن يعيش في القرن الحادي والعشرين، ويزاحم الدول المتقدمة، بل أن يكون بديلاً عنها، كما يطالب الإسلاميون؟ يبدو أن بعض المحافل الثقافية والندوات في العالم العربي تتحول إلى أخصب البيئات للأطروحات المثالية وإعلان المواقف وإثبات البراءة، دون التفات إلى التطبيق والنتائج. ولربما حاول د. العكايلة من خلال هذا التشدد إرضاء الإسلاميين، حيث قال في البداية "أنا ابن الحركة الإسلامية بغضِّ النظر عن كوني مُنظَّماً فيها أو غير مُنظَّم". ولكن المداخلة سرعان ما تتحول إلى نقد لاذع في بعض نقاطه للتيار الإسلامي، وذلك عندما طلب الإذن ليضع "ملامح للخطاب الإسلامي في القرن الحادي والعشرين"، فما هي هذه المرتكزات المقترحة؟ قال: أولاً، كما ذكرنا، لابد أن يتسم الخطاب الإسلامي بالواقعية أو البراغماتية، أن يبتعد عن المثالية والرومانسية والخيالية". والمرتكز الثاني، "ضرورة الانتقال من لغة الشعارات والبيانات والخطابات إلى لغة البرامج والمؤسسات والاجراءات. لقد وقعت الحركة الإسلامية في ما وقعت فيه الحركة القومية وفيما وقع فيه الشارع العربي بُعيد رحيل الاستعمار.. وقعت بلغة الخطاب العالية ورفع الصوت العالي.. علينا أن ننتقل من الأحلام والأماني والشعارات إلى التخطيط المنهجي. ثالث المرتكزات، ضرورة "الانتقال من تخيير الناس بين الإسلام والحياة.. إذا خيرنا الناس بين الإسلام والحياة فسيختار الناس الحياة، ولذلك علينا أن نقدم الإسلام للناس على أنه معمر للحياة، مُسعد للحياة، مُشبع لحاجات الناس.. فالناس أسرى حاجاتهم"! رابع المرتكزات، البناء الفكري لشباب الحركة الإسلامية كي لا ينبهروا بأفكار الآخرين: "كيف تربي شخصاً على أنه سيغير العالم فإذا احتك ببعثي أو علماني أو أميركي، تخشى عليه أن يُحتوى، ما هذا التناقض الرهيب؟". ولكن هل التناقض في طرح الإسلاميين وحدهم يا دكتور؟