إنّ أبلَغَ ما يصفُ الموقف الراهن عشية تسلُّم الرئيس الأميركي الجديد لمنصبه، عبارةٌ وموقف. العبارةُ قالها رئيس الوزراء الإسرائيلي المستقيل إيهود أولمرت في وداعه للرئيس بوش؛ إنه لن ينسى للرئيس المنتهية ولايته أنه أزال عن كاهل إسرائيل خَطَراً استراتيجياً بغزو العراق، وإسقاط صدام حسين! والموقف هو ما أعلنه القائمون على تشكيل الإدارة الأميركية الجديدة من استمرارٍ لوزير الدفاع الحالي غيتس في منصبه. وأُريدُ أن أبدأَ بالموقف، فالمعروف أنّ غيتس كان مديراً للمخابرات المركزية الأميركية، وشارك في "لَجْنة بيكر -هاملتون" عام 2005 -2006، والتي اقترحت سياساتٍ جديدةً تُجاه العراق وإيران وسوريا، وجاء غيتس وزيراً للدفاع لتنفيذها، بينما كانت مهمتا كوندوليزا رايس: إدارة الملفّ مع روسيا، وإدارة الملفّ الفلسطيني -الإسرائيلي. وقد فشلِت رايس في الأَمْرَين، في حين حقّق غيتس وبترايوس إنجازاتٍ بالعراق، وهو يحاول الآن تحقيق إنجازات في أفغانستان. وقد أقام تواصُلاً مع إيران ومع سوريا ومع تركيا، وحصل تبادُلٌ للضربات، لكنّ ذلك لم يقطع الاتّصال. وهذا التواصُل هو الذي أَوصل إلى الاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة. ودليله الإعلان عن حواراتٍ ستجري، إن لم تكن قد بدأت على المستويات الأمنية، مع إيران ومع سوريا. وليس من الضروري أن تُوصِلَ الحواراتُ إلى نتائج سريعة، لعدم الاتفاق على الحدود والأهداف. لكنْ أول وظائف الحوار وأهمّها استبعاد الحرب أثناء جَرَيانه، حتى إذا انقطع مَثَلاً؛ فإنّ ذلك تتلوه بالنسبة لإيران العودة إلى مفاوضات السُداسية المستمرة، وربما إيقاع عقوبات اقتصادية جديدة. ولن يتعرض أحدٌ لإيران عسكرياً، لا الولايات المتحدة ولا إسرائيل، بدون موافقةٍ روسية. أما الحوار الأميركي -السوري؛ فإنّ سوريا تطالبُ به من سنوات، وقد أراد الرئيس بشار الأسد أن تكونَ الولايات المتحدةُ راعيةً للحوار بينه وبين إسرائيل، بدلاً من تركيا، وهذا شرطُهُ الوحيد لتحويل المفاوضات إلى حوارٍ مُباشر. لذلك فالحوار السوري -الأميركي سيكونُ أسهَل، وهو يرتبطُ بأمرين: الجولان، وسياسات سوريا تجاه "حزب الله" و"حماس"، والعلاقة بإيران. ويتصور البعض أنّ سوريا إنما تحاولُ الجَمْع بين المتناقضات عندما تريد الاحتفاظ بالعلاقة الاستراتيجية مع إيران، والعودة للعلاقة القوية مع الولايات المتحدة. لكنّ الواقعَ غير ذلك، فلا اعتراضَ حقيقياً للولايات المتحدة على العلائق السورية الإيرانية، والتي تطورت تحت سَمْعِها وبَصَرها. ومادامت الولايات المتحدة تريد التحدث إلى إيران وفي موضوعاتٍ مُشابهة كانت بينهما- باستثناء النووي- منذ مطلع القرن الواحد والعشرين؛ فلا مشكلةَ لديها في صِلة سوريا بإيران، وإنما المطلوبُ وحسْبُ تخفيفُ الضغط عن إسرائيل عبر "حماس" و"حزب الله"! ولنَعُدْ إلى وداع أولمرت لبوش، وشُكْره له لإنهائه خَطَرَ العراق الاستراتيجي على إسرائيل. لقد غطَّى على هذا التصريح في وسائل الإعلام، تصريحٌ لوزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك جاءت فيه ثلاثةُ أمور: أنّ إسرائيل لا تستطيع الصبر على برنامج إيران لإنتاج سلاح نووي، وأنّ قوة "حزب الله" الصاروخية صارت ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في حرب صيف 2006، وأنه ينبغي استمرار التفاوُض مع سوريا على الجولان، وعقد معاهدة سلام معها، لإزالة الخطر على إسرائيل عن طريق إيقاف دعم دمشق لـ"حزب الله" و"حماس". وفي العادة تُستخدم تصريحاتُ المسؤولين الإسرائيليين بالداخل اللبناني لتبرير وجود سلاح الحزب، وأنه ضروريٌّ لمواجهة العدوان الإسرائيلي الآتي حتْماً، واتّهام خصوم الحزب، من السياسيين اللبنانيين، في الحدّ الأدنى بأنهم لا يأبهون للدفاع عن وطنهم، وفي الحدّ الأعلى بأنهم عملاء لإسرائيل والولايات المتحدة! وقد ظهرت النغمتان فعلاً بالداخل في الصحف والفضائيات على أثر تصريح باراك مباشرةً. لكنّ بارك ما كان يُهدّدُ "حزب الله" ولا إيران بالحرب، وطبعاً لا يُهّدد سوريا. فقد رأى عملياً أنّ مشكلتي "حزب الله" و"حماس" يمكن إنهاؤهما بالتفاوُضَ مع سوريا ودون حرب. في حين يعرفُ هو أنّ الولايات المتحدة تعودُ للتفاوُض العَلَني مع إيران، ولذا فعليها أن تحسبَ حسابَ مصالح إسرائيل وأمْنها في العملية التفاوُضية. وما يقالُ عن تدريباتٍ لطيارين إسرائيليين للإغارة على إيران؛ هو من صنف التهديدات الإيرانية بالسلاحين البحري والصاروخي، وبسلاح "حزب الله" و"حماس". فالطرفان يثيران الأمزجة في الداخل، ولديهما انتخاباتٌ، نيابية في إسرائيل، ورئاسية في إيران. وعلى هذه الخلفية يتّسِقُ كلاما أولمرت وباراك. فالولايات المتحدةُ هي التي أزالت الخطر الاستراتيجي للعراق عن كاهل إسرائيل، وهي التي تستطيع إزالة الخطر الإيراني إنْ كان سلماً أو حرباً، وليس إسرائيل. وإذا شاء أحدٌ أن يشكّك في ذلك (أي في إرادة الولايات المتحدة، وفي إمكان تفاوُضها واتفاقها مع إيران)؛ فيمكن ذكْرُ نموذج العراق، والذي أُسقط نظامُ الحكم فيه ليس لصالح إسرائيل وحسْب؛ بل ومن باب أَولى بعد المصلحة الأميركية لصالح إيران، وبالاتفاق معها. إسرائيل مارست الإغراء والإقناع عبر محافظيها الجدد في إدارة بوش، أمّا إيران فقد جرى الاتفاقُ معها صراحةً، وإلاّ فكيف سمحت لحركات "المقاومة والمعارضة" العراقية الموجودة على أرضها بالدخول إلى المنطقة الكردية، ثم بعد الغزو إلى منطقة البصرة مباشرةً، وبسلاحِها. أمّا في أفغانستان فقد ذكرت إيران عَلَناً أنها قدّمتْ للعسكر الأميركي تسهيلاتٍ لوجستية. وقد تجاوز الاتّفاقُ بين الطرفين مسألتي الغزو وَمَنْ يتولى السلطة، إلى مسألةٍ أخطَر، وهي التوافُق على هدم بنية الدولة العراقية العسكرية والأمنية والإدارية حتّى ما كان منها موجوداً منذ أيام الملكية قبل ثورة 1958! وحتّى الآن لا يقبلُ مسؤول أميركي واحد اعتبارَ نفْسه مسؤولاً عن ذلك، حتى الرئيس بوش نفسه. بل إنّ أحداً لا يعترف بأسباب السماح بالنهب المنظَّم للمتحف العراقي، والذي لا يمكن أن تكونَ له دوافعُ تجاريةٌ بحتةٌ؛ فالآثار العراقية معروفةٌ، ولا يستطيع أيُّ متحفٍ عالميٍ محترمٍ أن يقتنيها من اللصوص! وهكذا فقد كان المُراد تغيير هوية العراق القديمة والحديثة. وقد حِرصتْ إيران، وحتى عندما كانت ما تزال متوافقةً عَلَناً مع الولايات المتحدة، على أن تحضُر ليس بين الحاكمين وحسْب؛ بل ومع المعارضين الشيعة من مثل مقتدى الصدر. وما قبلتْ أن يختلف مقتدى مع الأميركيين وحزبي "المجلس الأعلى" و"الدعوة" إلاّ بعد التبايُن مع الولايات المتحدة عام 2005 -2006. ففي اجتماعٍ لوزراء خارجية دول الجوار العراقي بطهران عام 2006 قال لهم متّقي وزير الخارجية الإيراني: إذا أردْنا المطالبة بانسحاب الأميركيين من العراق، فلا بد أن تتوقف المقاومةُ ضد الأميركيين! والمعروف أنه حتى بعد الاختلاف الظاهر بين الطرفين 2004 -2005، والذي كان بين أبرز مظاهره القبض مؤقتاً على أحمد الجلبي باعتباره عميلاً مزدوجاً ثبت أنه يرجّح الولاء للجانب الإيراني؛ فإنّ اللجان الأمنية بين الطرفين اجتمعت عدة مرات. ولذا فقد أمكن عن طريق التعاوُن المستمر نسبياً غضّ النظر عن المالكي والجيش العراقي، عندما قاما بعملية تحجيمٍ لمقتدى الصدر في البصرة والناصرية ومواقع أُخرى غير مدينة الصدر. وقالت إيران إنها ضد الاتفاقية الأمنية العراقية الأميركية، ثم سكتت عن ذلك بعد استيثاقِها من أنّ الوجود العسكري الأميركي سيتحجم تدريجياً حتى يزول عام 2011، وأنها هي التي ستخلُفُ أميركا هناك؛ في حين تظلُّ إسرائيلُ طرفاً قوياً في المنطقة الكردية! وفي ظلّ إدراكاتٍ كهذه، تُصبحُ حتّى الحروب الصغيرة والتجاذُبات الأمنية، جزءًا من التفاوُض؛ لأنَّ الجميع، وليس الرئيس الأسد وحده، يبحثون عن تلاقٍ وتبادُلٍ للمصالح مع الولايات المتحدة. وعندما تقولُ الإدارة الأميركية الجديدةُ بالتفاوُض مع إيران، وذلك يشمل بالطبع "النووي" والعراق وأمن الخليج ودعمها للحركات الثورية الإسلامية؛ فإنّ ذلك يضعُ كلَّ الخطاب الثوريّ الإيراني على محكّ النظر، بعد أن نجحت -على الأقلّ لدى حِزْبييها- في إنساء الشبان العرب على الخصوص، صِِلاتِها بالغزو الأميركي لأفغانستان والعراق! في ظلّ هذه المعطيات، يصبحُ ضرورياً النظرُ ليس في أخطار الحرب، التي لن تقع في الأرجح؛ بل في أخطار السلام، والذي تعتبرُ ثلاثةُ أطرافٍ أنها صاحبةُ المصلحة والحظ الأكبر فيه: إيران، لأنها استخدمت أدوات الحرب، وتريد سِلْماً لتحصُل على ما عملتْ من أجله. وإسرائيل لأنّ الحربَ الأبدية التي كانت تُبشِّرُ شعبها بها ما عادت تكاليفُها محتملة. وتركيا التي وازنَت الأمور مع إيران في السنوات الماضية، عندما كانت الأخيرة تُمسك بعنان جياد الحرب، وتركيا تُمسك بطَوق حمامات السلام!