إلى متى نظل ندفن رؤوسنا في الرمال ونغض الطرف عمَّا يهدد الأمن البحري الإقليمي والدولي؟ وإلى متى نظل أسرى قرارات القوى الكبرى وننتظر تصرفها تجاه ما يهدد أمننا القومي؟ وإلى متى نظل نشجب ونرفض وندين ونستصرخ العالم دون أي مبادرة للفعل، وننتظر من الآخرين أن يتخذوا خطوات وخطوات قبل أن نفيق ونشعر بأهمية دورنا في تحقيق أمننا الشامل؟ وإلى متى نظل نفتقد القدرة على تقييم تهديدات أمننا وتحديد درجة خطورتها؟ ومتى سنتخذ الخطوات والإجراءات الكفيلة بمواجهتها قبل أن تتفاقم وتتحول إلى خطر يصعب دفعه؟ هذه الأسئلة وغيرها تفرض أن نسارع إلى اتخاذ الخطوة الأولى ونملك زمام المبادرة ولو لمرة واحدة في حياتنا تجاه أحد مهددات أمننا الوطني والإقليمي. فهل يُعقل أن تعود القرصنة البحرية بقوة وفاعلية بعد أكثر من قرن من الزمن من نجاح العالم في كبحها والحد من تأثيرها، وقد عُدَّ القضاء على هذه الظاهرة أحد أهم الإنجازات البشرية الحضارية الكبرى في القرن التاسع عشر؟ إن تهديدات القرصنة البحرية لا تتوقف عند تعريض الحركة التجارية البحرية الدولية وسلامتها للخطر، بل تتعداها إلى تزايد عمليات الابتزاز والإرهاب وتهديد سلامة أرواح الأطقم البحرية المدنية، ورفع قيمة التأمين البحري على السفن التي تتخذ مسارات بحرية معينة مما يزيد من عبء تكلفة نقل البضائع بأنواعها ويهدد سلامتها البحرية، بل إنه قد يؤدي إلى تراجع الأهمية الاستراتيجية لبعض المناطق نتيجة للجوء بعض الدول إلى تجنب الطرق البحرية المهددة، ما قد يؤثر في الدخل القومي لبعض الدول العربية التي يكون دخل القنوات البحرية أحد مواردها المهمة، ناهيك عن مدى ما تعكسه عمليات القرصنة البحرية من تأكيد ضعف القوات البحرية للدول القريبة من المسارات البحرية، ويشكك في قدرتها على بسط سيادتها على مياهها الإقليمية وحماية مصالحها الاقتصادية الحيوية، بالإضافة إلى ذلك لا توجد أي ضمانات على أوجه صرف أموال الفدية، وأن نسبة منها لا تذهب إلى المنظمات الإرهابية أو جماعات الجريمة المنظمة أو أمراء الحرب، لأن القراصنة في حاجة إلى سلاح وعتاد وهو أمر يمكن أن توفره مثل هذه المنظمات والجماعات في ظل ازدياد ربحية عملية القرصنة من ناحية، والحاجة إلى زيادة معدلاتها من ناحية أخرى. حتى الآن راجت عملية القرصنة البحرية في منطقة خليج عدن، وهي أحد أهم طرق النقل البحريِّ في العالم، واستطاع القراصنة مهاجمة ما يزيد عن 90 سفينة عام 2008، وتم تخليص كثير منها بدفع فدية بلغت نحو 32 مليون دولار، بينما بلغ إجمالي الفدية عام 2007 نحو 121 مليون دولار، مما شجع القراصنة على استمراء الوضع والتمادي فيه حتى إنه لم يُحسم بعدُ مصير 16 سفينة نقل ونحو300 من أطقم العاملين على متن هذه السفن تعرضوا للاختطاف والاحتجاز. وقد أكدت حوادث اختطاف السفن الأخيرة، خاصة اختطاف ناقلة نفط سعودية عملاقة، تنامي قدرات القراصنة وتطوُّر مهاراتهم القتالية، وبعد أن كان عدد هجمات القراصنة لا يتعدى عشر هجمات عام 2004، أضحى 26 هجوماً عام 2007، وبلغ عددها 95 عملية حتى الآن في عام 2008، لذلك توجد عوامل كثيرة أدت إلى تفاقم هذه الظاهرة، من أهمها: أولاً؛ تقليل بعض الدول من شأنها ومن حجم تأثيرها الأمني، الأمر الذي دفع كثيراً من دول العالم إلى التعامل الفردي معها، وعدم الاتفاق على تحرُّك دولي قوي ومؤثر لمواجهتها والقضاء عليها. ثانياً؛ رضوخ كثير من أصحاب السفن ودفعهم الفدية التي يطلبها القراصنة، الأمر الذي شجَّع آخرين على الدخول إلى عالم القرصنة لتحقيق الأرباح السهلة منه. ثالثاً؛ سرعة تنفيذ عملية القرصنة نتيجة نجاح القراصنة في استغلال حالة الفوضى والارتباك التي تحدث فور خطف السفن واحتجازها، خاصة أن السفن التجارية غير مجهزة بأسلحة للحماية المباشرة. رابعاً؛ عدم وجود تقييم حقيقي وواقعي للتهديد الأمني الذي تمثله الظاهرة ومدى انتشارها على مستوى العالم بما يؤدي إلى إدراك مدى تأثيرها على المصالح الحيوية والاستراتيجية الدولية. خامساً؛ الفوضى والانهيار الأمني وحالة عدم الاستقرار المنتشرة في الصومال، وتقويض دولة تضم نحو 3213 كيلومتراً من ساحل بحري يسيطر على خليج عدن الذي تمر فيه نحو 20 ألف سفينة سنوياً، الأمر الذي شجع القراصنة على الاستيلاء على هذا الساحل وتشغيل موانئه لصالحهم. سادساً؛ تجنّب القراصنة التعرض للسفن التابعة للقوى الدولية التي تملك قدرات عسكرية بحرية فاعلة في المنطقة، الأمر الذي جعل هذه الدول لا تشعر بحجم وقيمة التهديد البحري، ومن ثم قلَّل من اهتمامها بتأمين السفن الأخرى. سابعاً؛ عدم وجود مسوّغ قانوني للتدخل ضد القراصنة باعتبار أن ما يقومون به لا يندرج في خانة "الإرهاب"، حيث تُصنف أنشطتهم تحت بند "الجرائم البحرية"، والقانون الدولي البحري لا يسمح بالتدخل العسكري إلا وفق ظروف محددة منها التعرض المباشر لعمل عدائي، فضلاً عن عدم وجود قوة دولية مسؤولية عن حماية وتطبيق القانون الدولي. ثامناً؛ أن القراصنة يفاوضون من موقع قوة، حيث يملكون عدة أوراق للمساومة: الرهائن والسفن المحتجزة وحمولتها، ولا يتورعون عن تنفيذ تهديداتهم، ومعظم عصابات القرصنة تتشكل من مليشيات عسكرية جيدة التدريب وتمتلك خبرات تقنية تستطيع متابعة وكشف حركة السفن في المياه الدولية القريبة من السواحل. تاسعاً؛ لا تملك السفن التجارية وسائل الكشف عن اقتراب الزوارق الصغيرة والسريعة، خاصة في أثناء الليل وحالات الرؤية الضعيفة، وكذلك وسائل الحماية والدفاع عن نفسها. وتوجد تداعيات اقتصادية كبيرة لعمليات القرصنة البحرية، فبالإضافة إلى ما تمثله من تهديد للأمن والسلم البحري الدولي، فإن لها تأثيراً مباشراً على الدخل القومي لبعض الدول، مثل مصر التي يُعتبر دخل قناة السويس أحد مواردها المهمة، ففي حالة تفضيل دول العالم استخدام رأس الرجاء الصالح لتفادي عمليات القرصنة في خليج عدن، أو إذا زادت تكلفة التأمين البحري بنسب كبيرة، فسوف تحاول دول العالم البحث عن وسائل أخرى للنقل مما سيقلل من الأهمية الاستراتيجية لبعض الممرات البحرية. يجب النظر إلى ظاهرة القرصنة البحرية من زاوية تهديد الأمن الوطني والإقليمي والدولي، والعمل على وضع تقييم حقيقي لحجم هذا التهديد، ومن ثم اتخاذ الإجراءات اللازمة للقضاء عليه. لقد أصبحت القرصنة البحرية تجارة مربحة لأصحابها، ومن الممكن استغلالها لتغذية الحروب المحلية الطائفية والقبلية، ودعم المنظمات الإرهابية، لذا فهناك ضرورة لتعاون دوليٍّ كبير وواسع تفرضه المصالح المشتركة من أجل حماية الممرَّات البحرية الدولية في مواجهة مختلف التهديدات، خاصة القرصنة، فهي تُعدّ بمنزلة شرايين أساسية للحياة الاقتصادية والتجارية للعالم، لذلك فإن هناك حاجة ملحِّة لعقد مؤتمر دولي، ربما تتبناه كل من مصر والسعودية واليمن، وهم أكثر المتضررين المباشرين حتى الآن من ظاهرة القرصنة البحرية، لوضع اتفاقية عالمية تضمن إبحاراً آمناً وتضع حداً للقرصنة البحرية من جانب، وتسعى إلى تشكيل قوة بحرية عربية لتأمين المصالح الاقتصادية والتجارية في البحر الأحمر من جانب آخر، كما يمكن تجهيز بعض السفن بكاميرات مراقبة تعمل ليلاً ونهاراً وفي حالات الرؤية الضعيفة لكشف اقتراب القراصنة من السفن في الوقت المناسب مع وضع قوات تأمين وحماية مناسبة على بعض السفن لحمايتها بصورة مباشر، أسوة بحال أطقم أمن حماية الطائرات، هذا إذا كنا جادين في القضاء على أحد مهددات الأمن القومي والإقليمي ومنع تفاقمه.