في أحد الأشهر القليلة الماضية، وجدت نفسي في اجتماع لعدد من الاقتصاديين والمسؤولين الماليين، لم يناقش فيه سوى موضوع الساعة: الأزمة المالية. واتسم نقاش الحاضرين بكثير من التساؤلات الباحثة عن الذات... من بينها ذلك السؤال الذي طرحه أحد كبار المسؤولين الماليين: كيف عجزنا عن رؤية مؤشرات هذه الأزمة قبل حدوثها؟ ولم تكن ثمة إجابة واحدة ممكنة عن هذا السؤال، فبادرته بها على الفور: ماذا تقصد بقولك "نحن"... من تعني؟ لكن مهما تكن الإجابة، فمما لاريب فيه أن هناك منطقاً وراء ذلك السؤال. فرغم قول البعض بأن الأزمة المالية الحالية غير مسبوقة، فالحقيقة تشير إلى وجود سوابق كثيرة لها. بل إن بعضها يعود إلى تاريخ قريب جداً. ومع ذلك يصر البعض على تجاهلها. والذي يقرأ من سؤال المسؤول أعلاه، أن له صلة كبيرة بطريقة استجابتنا للأزمة ووضعنا لسياسات معالجتها. وأخص هنا تحديداً السرعة التي يجب أن نتحرك بها لإصلاح الأسواق المالية... فهو أمر غير قابل للتأجيل أو الانتظار إلى حين انفراج الأزمة. عودة إلى سوابق الأزمات أقول: لماذا استخف الكثير من المحللين والمراقبين ببوادر انفجار الفقاعة العقارية، رغم أن انفجار أزمة قطاع تكنولوجيا الـ"دوت كوم" في تسعينات القرن الماضي، لا تزال ذكرياته حية وحاضرة في الأذهان؟ ولماذا يصر كثيرون -على رأسهم آلان جرينسبان- على وصف نظامنا المالي بالثبات، رغم ما أدى إليه انهيار صندوق واحد من صناديق المخاطرة المالية هو -Long Term Capital Management- إلى إصابة الأسواق الائتمانية على نطاق العالم كله بشلل مؤقت؟ وبالقدر نفسه: لماذا يؤمن الجميع تقريباً بالقدرة الخارقة للبنك الاحتياطي الفيدرالي على إخراج اقتصادنا ومؤسساتنا المالية من مثل هذه الأزمات، قياساً إلى عجز البنك الاحتياطي الياباني عن إخراج الاقتصاد الوطني لمدة عقد كامل من الزمان؟ الإجابة الوحيدة الممكنة هي أنه ما من أحد أراد لاحتفالات النصر تلك أن تنفض. فبينما كانت تزداد فقاعة القطاع العقاري انتفاخاً، كان الدائنون على أتم الاستعداد لمنح القروض العقارية لكل من يطرق أبوابهم، بصرف النظر عن مسؤوليته أو كفاءته المالية. ومن جانبها انخرطت البنوك في إعداد حزم استثمارية تمكنها من جني مزيد من الأموال والأرباح، عبر تحويل هذه الرهون العقارية وقروضها غير المسؤولة إلى أوراق مالية. أما المدراء الماليون فتوهموا أنهم عباقرة بحجزهم المسبق للأرباح الورقية الطائلة التي يمكن لمؤسساتهم أن تجنيها، جراء شرائهم لتلك القروض والرهون المتعثرة. وقد كوفئ هؤلاء على رعونتهم الإدارية بانتفاخ جيوبهم بالأموال والعلاوات الثمينة. والحال هكذا، فأي هؤلاء كان على استعداد لسماع نعيق أولئك المتشككين الاقتصاديين الذين لم يكفوا عن التحذير من أن ينقلب الأمر كله في نهاية الأمر إلى مارد اقتصادي شرير تصعب النجاة من ضربته القاضية لا محالة؟ ثم هناك تفسير آخر لعجز المؤسسة المالية الأميركية عن رؤية نذر الأزمة المالية الحالية. فقد كان ينبغي النظر إلى مؤشرات الأزمات التي شهدها عقد التسعينات، وكذلك مؤشرات أزمات السنوات المبكرة من العقد الحالي، على أنها نذر شؤوم يجب التحسب لما تخفيه من أزمات أسوأ وأشد. لكن الذي حدث عملياً أن الكل تقريباً كان في أشد الانهماك في حفل الرقص على ما حققته بلادنا من نجاح في الخروج من أزماتها وكوارثها المالية السابقة. وفيما نذكره من كرنفالات الصخب هذه وصف مجلة "تايم" الشهير لكل من آلان جرينسبان، وروبرت روبن ولورانس سامرز، بأنهم فريق العباقرة الماليين الذي أنقذ العالم بأسره وجنبه شرور الانهيار المالي. وبالنتيجة، انخرط الكل في تنظيم كرنفالات الطرب والاحتفال بنجاتنا من شفا الهاوية، ولكن دون أن يتساءل أحد عن السبب الذي جعلنا بكل ذلك القرب من شفا الهاوية في الأساس! والحق أن أزمة عام 1997-1998 خلفت وراءها تأثيراً سلبياً لكونها أفضت إلى تزايد شعور المستثمرين والمسؤولين الماليين بالرضا عن الذات، أكثر من أن تنبههم إلى جوانب ضعف أدائهم وقصوره. ولكون الأزمة لم تستفحل أو تسفر عن تحقق المخاوف التي أثارتها، ولم تتسبب في تكرار دوامة جديدة من الكساد العظيم، فقد كان الشعور العام الذي ساد في أوساط المستثمرين أن جرينسبان، شخصية تتمتع بقدرات سحرية خارقة، لا يستعصي أمامها حل أي معضلة مالية اقتصادية أياً كانت. لكن حان الوقت كي نتشكك كثيراً اليوم في صحة تلك الأوصاف، خاصة وأن جرينسبان هو من عارض أي مقترحات رمت إلى تنظيم وإعادة هيكلة نظامنا المالي. ولأننا الآن في قلب أسوأ أزمة مالية نمر بها منذ ثلاثينات القرن الماضي، فمن الطبيعي أن تتجه الأنظار كلها إلى ما سوف تقدم عليه إدارة الرئيس المنتخب أوباما في التصدي لها. ورغم علمي بازدحام جدول أعمال هذه الإدارة سلفاً، فإنه من الواجب عليها أن تبدأ اعتباراً من يومها الأول في البيت الأبيض، العمل على تجنيب بلادنا حدوث أزمة مالية مستقبلية. فالآن هو وقت تفادي أزمات المستقبل. ---------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"