لم يكن شكيب أرسلان يزجي قولاً في الفراغ حين تساءل بملء فيه: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ بل كان يطلق طلقة كاشفة تبدد الظلمة التي لفَّت عقول رواد النهضة العربية- الإسلامية الحديثة الذين حيرهم غروب شمس حضارتنا، وبزوغ شمس حضارة الغرب، الذي كان يعيش في ظلام دامس وقت أن كان نور التحضر والتقدم يغمر أرض الإمبراطورية الإسلامية مترامية الأطراف. في حقيقة الأمر فإن سؤال النهضة ونظائرها وأشباهها هو الذي سيطر على العقل المسلم منذ مطلع القرن الثامن عشر، وطفت على السطح مصطلحات تدور حول هذا المعنى، تتقاطع معه أحياناً، وتوازيه أحياناً، وتختلط به لدى كثيرين، مثل "الإحياء" و"الصحوة و"الإصلاح" و"التجديد". وهذه المصطلحات توزعت على اتجاهات نظرية وعملية شتى هي: 1 ـ طرحها البعض كمنظومة قيم متماسكة، ترمي إلى تشكيل إطار عصري ذي جذور عميقة تمتد إلى العهد الأول للإسلام، وتحاول أن تعيد إنتاج تجربته الفريدة والعفية، التي أطلقت الدفقة الأولى لنور الحضارة الإسلامية، سواء من حيث الحالة الروحية الفياضة أو من زاوية السلوكيات والمآثر التي جاد بها الرعيل الأول، الذي سماه بعض أنصار الحركة الإسلامية الحديثة "الجيل الرباني" أو "الجيل الفريد". 2 ـ وهناك من طرح هذه المصطلحات بوصفها شعاراً سياسياً، يهدف إلى تعبئة وحشد الأنصار للاستقواء والاستعانة بهم في بناء "الدولة الإسلامية المعاصرة" أو "استعادة الخلافة" وإزاحة الأنظمة العلمانية وشبه العلمانية التي وصلت إلى سدة الحكم عقب سقوط الخلافة العثمانية عام 1924. 3 ـ وطرحت هذه المصطلحات أيضاً في سياق التحدي الحضاري للغرب، الذي بلغ موقعاً متقدماً من نفوس وعقول أتباع الحركة الإسلامية الحديثة والمعاصرة، إلى درجة أن من تابعها وجعلها موضع الفحص والدرس رأى أنها تعد رد فعل على تجبر الحضارة الغربية، وتحول فائض قوتها وتمكنها إلى حركة استعمارية استهدفت بلاد العرب والمسلمين. ومن هنا حفل خطاب الإسلاميين على اختلاف تنظيماتهم وجماعاتهم من حيث التفكر والتوجه والتصرف بالعديد من المضامين والتعبيرات التي توضح موقفهم المغبون من الغرب، ودعوتهم إلى مواجهته، ابتداء من التمسك بالهوية وانتهاء برفع السلاح. 4 ـ واستخدمت هذه المصطلحات لمواجهة تيارات سياسية وفكرية انحازت إلى "القُطرية" الضيقة، ومالت إلى استعارة طرق الغرب وأدواته في النهضة، ورفعت شعارات من قبيل "التحديث" و"الحداثة" و"التنوير" في مواجهة من راموا التقدم على أسس إسلامية. 5 ـ كما طرحت هذه المصطلحات لدى البعض في إطار بحثهم عن دور حياتي، أو سعيهم إلى الحصول على تقدير الذات واحترام الآخرين، عبر الانتماء إلى فكرة وطريق سياسية واجتماعية مرتبطة بالدين الذي يحظى بمكانة عريضة في قلوب الشرقيين وعقولهم. 6 ـ وليس آخراً، استخدمت هذه المصطلحات لدى البعض بغية تحقيق منافع مادية ودنيوية عبر الاستفادة من الأموال الطائلة التي جاد بها الموسرون من أنصار الحركة الإسلامية وأتباعها والمتعاطفون معها، سواء كانوا وجهاء أو حتى أفراداً عاديين كانوا حريصين على دفع التبرعات المتفرقة والمنتظمة لهذه الحركة. لكن هذه التوزيعات لمسألة النهضة خضعت كغيرها من اهتمامات علماء المسلمين المحدثين للأمرين الأساسيين اللذين يقاس عليهما أي تفكير أو عمل لنقف على مدى نجاعته وقدرته على تغيير الواقع المتردي الذي نعيشه، وهما الصواب والإخلاص. وفي حقيقة الأمر فإن كثيراً من أسئلة النهضة وسائليها لم يعُزهم الإخلاص، لكنهم افتقدوا في كثير من المواقع والمواضع والحالات إلى الصواب. وأول خطوة نحو مفارقة الصواب كانت الخلاف على تعريفه، الذي نبع أساساً من الاختلاف حول تأويل النص الإسلامي المؤسس وهو القرآن الكريم، إلى جانب الصحيح من السُّنة، وتجلياتهما في الواقع المعيش، ومن ثم فإن ما رأته جماعة ما عين الصواب رأته أخرى مخالَفة صريحة له، وما اعتبره البعض تجديداً في فقه الدين وفكره تصوره آخرون تجديفاً وخروجاً على الشرع. وعلى هذا الأساس وقع اختلاف، ولا يزال، حول سبل النهضة، بين الفِرق والجماعات والتنظيمات الإسلامية. فبعضها انطلق من الموقع نفسه ورمى إلى تحقيق الغاية ذاتها، لكنه لم يلبث أن تخاصم أو تنازع حول الأسلوب الذي يجب اتباعه في سبيل بلوغها. وهذا الاختلاف توزع على عدة محاور من قبيل القواعد التي تقوم عليها النهضة، والعناصر التي تشارك في صنعها، والمستوى الذي تبلغه، والهيئة التي ستكون عليها في المستقبل المنظور والبعيد. ولم يقتصر الاختلاف والخلاف على أتباع الحركة الإسلامية بل امتد إلى التيارات الفكرية الأخرى، التي أدلت بدلوها في الجدل والنقاش الذي دار حول معاني النهضة ومبانيها، وأشباهها ونظائرها، بل إن هؤلاء هم من أطلقوا السؤال أولاً، وقبل وقت طويل من التفات الحركيين الإسلاميين إليه، بل إن هذا التساؤل لم يطرح في إطار تحدي الغرب أو خصامه، بل في سياق الرغبة في التفاعل الخلاق معه، والاستفادة من عطائه الحضاري، تحت لافتة أن "الحكمة ضالة المؤمن فأنّى وجدها فهو أوْلى بها". وهذا المعنى تجسد بجلاء في أعمال فكرية عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، كتب رفاعة رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وخير الدين التونسي وأديب إسحاق. وقد كان هؤلاء يفكرون في سؤال النهضة وأشباهها في وقت واحد تقريباً، وهي مسألة يصفها عزت قرني في كتابه المهم الذي وسمه بـ"العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة" بقوله: "كان أهل المغرب، وأهل المشرق، وأهل مصر بينهما، يفكرون جميعاً في الأمور نفسها، وأمامهم المشكلات نفسها، والحلول ستكون لهم جميعاً. فهذا الفتى المصري، وذلك السياسي الذي اتخذ تونس موطناً ووطناً، وهذا السوري المتأجج حماسة، وذلك الأفغاني الذي يذهب بين الحجاز ومصر ويثير في نفوس المتكلمين بالعربية في مصر والشام وغيرهما نفس ردود الأفعال. هؤلاء جميعاً كانوا يتحدثون عن الشيء نفسه، ولكن بطرق متباينة، وإلى حدود مختلفة". لكن أتباع الحركة الإسلامية، التي بذلت جهداً في سبيل نقل الأفكار إلى الواقع، لم يتبعوا ما أنتجه رواد النهضة العربية الحديثة، بل تنكروا له، متصورين أنه أو أغلبه لا يعبر عن أصالتنا، إنما هو مجرد خليط بين ما لدينا وما أفرزته الحضارة الغربية، وأنه يعبر في جزء كبير منه عن استلاب حيال الغرب، يبدأ بالإعجاب به وينتهي بالانسحاق أمامه، والتسليم بكل شروطه، والتماهي مع أطروحاته، والوقوع في فخ مركزيته، التي لا ترى أن هناك شيئاً ولا أحداً خارجه. وإنكار إجابات هؤلاء الرواد على سؤال النهضة وتجاهل جهدهم أو القدح فيه مهد الطريق لإعادة طرح السؤال نفسه على يد الحركيين الإسلاميين، لكن الردود جاءت هذه المرة مختلفة، حيث حاولت أن تحقق قطيعة معرفية وشعورية مع الغرب بأفكاره وطرائق عيشه، ثم انزلقت إلى تنفيذ هذه القطيعة مع المجتمع الإسلامي نفسه على يد فرق متطرفة ومتشددة رمت المختلفين معها بالفسق والكفر والجاهلية، وناصبت الجميع العداء، وادعت أنها "الفرقة الناجية"، ثم سلكت طريق العنف الرمزي والمادي من أجل إجبار الآخرين على الانضمام إليها.