بعيداً عن التهوين والتهويل، واضحة مكامن القوة في الاستراتيجية الإسرائيلية التي تستهدف تحقيق مجموعة من الأهداف الصهيونية، وتستند إلى مرتكزات تشكل القاعدة الأساس للاستراتيجية الإسرائيلية. ومن أبرز هذه المرتكزات: نظرية "الأمن الإسرائيلي المطلق"، و"الحدود الآمنة"، ونظرية "القوة الكاملة الضاربة" التي تقوم على امتلاك قوة حربية عظمى تحمي إسرائيل، مع تأمين عناصر الدعم والمساعدة الخارجية. ذلك أن نظرية الأمن الإسرائيلي المطلق والشامل تشترط استمرار تدفق متطلبات القوة اللازمة بكل أشكالها ومكوناتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية. وفي الوقت ذاته، تعاني إسرائيل من مواطن ضعف: عنصرية الفئات التي تشكل مجتمعها، سواء على الصعيد السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي، ناهيك عن عنصرية دينية حادة بين المذاهب اليهودية في إسرائيل وخارجها، الأمر الذي يضعف "الإجماع الوطني" نظراً لاتساع الهوة القائمة بين العلمانيين والمتدينين والتي أدت إلى عداء مستمر بين الأحزاب الدينية الشرقية والغربية والوسطية مما أسهم في إضعاف بلورة ماهية الدولة اليهودية. فالدول كيانات حية، تنمو وتكبر، ثم تشيخ وتموت إما من جراء الحروب والصراعات أو بفعل عوامل التحلل الذاتي. والإسرائيليون لا ينكرون هذا الخوف على دولتهم، بل تكاثرت الدراسات الإسرائيلية التي تحذر من "قرب نهاية" الدولة، فهم يدركون أنه لولا الدعم الغربي لم تكن إسرائيل لتوجد. فبعد ستين عاماً على وجودها، ظهرت متغيرات استراتيجية ستؤثر لا محالة في مستقبلها. وهكذا، فإن أحاديث زوال الكيانات ليست اختراعاً عربياً (جمال عبد الناصر) أو إيرانياً (أحمدي نجاد) أو شعرياً (محمود درويش)... فهناك عدد من قادة إسرائيل السابقين وبعض المفكرين اليهود يهجسون بذلك. فإسرائيل، كغيرها، تريد الأمن والاستقرار في الداخل وعلى حدودها، لكنها -وهنا الاختلاف- تريد أمناً مطلقاً دون التخلي عن أهدافها التوسعية ومقارفاتها العسكرية (استمرار الاحتلال، تزايد "الاستيطان"، تقطيع أوصال الأرض ومصادرتها)، مع اعتبار المقاومة الفلسطينية والعربية مساساً بسيادتها! فهي تريد السلام مع سوريا دون التخلي عن الجولان. وهي تريد سلاماً "عميقاً" مع مصر رغم استمرار تنكرها للحقوق الفلسطينية والعربية، والتجسس على مصر نفسها، وضرب اقتصادها بأساليب متنوعة. واليوم، تبدو إسرائيل وقد شاخت. وتتأكد هذه الشيخوخة في تكلس وتآكل المؤسسات التي أقامت الدولة (إنقسام الأحزاب الرئيسية وتراجع قوتها، وتشظي البنية السياسية الاجتماعية، مع هزيمتها كإطار جامع للرؤية الأحادية للهوية)، إضافة إلى معطيات السنوات الأخيرة للهجرة اليهودية لإسرائيل، وتنامي الهجرة العكسية، مع تزايد التناقضات والصراعات داخل المجتمع. هذا علاوة على تقلص آفاق الاقتصاد والجيش الإسرائيلي القائمين على الدعم الخارجي (خاصة الأميركي) مع تحول إسرائيل إلى عبء على الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. "ناحوم برنيع"، كبير المعلقين في صحيفة "يديعوت أحرنوت"، الأوسع انتشاراً، قال: "على الرغم من أن إسرائيل اليوم قوية من ناحية عسكرية وذات منعة اقتصادية، إلا أن الناس فيها يفقدون الثقة بمستقبلها وبقدرتها على البقاء". وفي مقال آخر، روى حادثة طريفة وقعت مع كاتب يهودي أميركي ذهب إلى طبيب للحصول على وصفة دواء طلب أخذها قبل السفر بالجو، فسأله الطبيب: "بماذا تعمل؟"، فرد الكاتب: أنا كاتب. عندئذ سأله: ماذا تكتب؟ قال: حول مستقبل إسرائيل. فضحك الطبيب، وقال: آه أفهم الآن، أنت تكتب قصصاً قصيرة!". واعتبر "برنيع" أن تلك الإجابة "تعكس المزاج العام في إسرائيل، مزاج الشعور بنهاية الزمان، مع أنه لا يتحدث عنه أحد، لكن الجميع يشعرون به، إنه نوع من اليأس لا ينبع من الحرب التي كانت أو من الحرب التي قد تأتي، بل من مصادر أعمق". وأضاف: "إن مظاهر المنعة العسكرية والاقتصادية الإسرائيلية مضللة رغم كون إسرائيل ذات اقتصاد مستقر، وأسعار العقارات فيها تبلغ عنان السماء، وجيشها قوي، وجامعاتها ذات نوعية عالية، ومع ذلك فهي تعجز عن توفير الأمن لليهود الذين يعيشون فيها، وهي لا تعطيهم الحياة الطبيعية". وختم "برنيع" قائلا إن "إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا يزال مجرد وجودها مثيراً للجدل، في حين لا يشك أحد في العالم في حق الفلسطينيين في دولة". أما "نمرود ألوني" رئيس معهد التفكير التربوي ورئيس مؤتمر تل أبيب للتعليم المتقدم، فيقول: "يخيل إلي أنه لا يوجد اليوم في إسرائيل شخص واحد لا يدرك شمولية وتعدّد مجالات الشرخ الإسرائيلي، حيث مظاهر الفساد السياسي، إخفاقات جهاز التعليم، أزمة الجامعات، فقدان الثقة بالجيش، اهتزاز الأوضاع في الشرطة، المساومات في جهاز القضاء، الاكتظاظ المريع في المستشفيات، الفقر المدقع الذي يعانيه ثلث الأطفال في إسرائيل، القتل على طرق البلاد، ضرب السكاكين في الشوارع والنوادي الليلية. وتدمير جودة البيئة". أما "تومر كيرت" فيقول: "الفساد هنا مفزع ومخيف وإذا لم نقف جميعاً صفاً واحداً في وجهه، وفي كل القطاعات التي يستشري فيها (من ملاعب كرة القدم، مروراً بالسلطات المحلية والكنيست، وحتى مؤسسة الرئاسة ورئاسة الحكومة)، فإن هذه الدولة ستنهار مثلما انهارت دول فاسدة في الماضي. أي إنسان عاقل مستعد لأن يجازف بأمواله في دولة يمكن أن تنهار في أية لحظة جراء انهيار شامل ناجم عن عفن وفساد عميق وعن عجز الوزارات والدوائر الحكومية عن القيام بعملها؟". إسرائيل إذن تتعرض للتفتت. إنها اليوم تبدو عاجزة نسبياً عن التحرك عسكرياً وسياسياً في المنطقة قياساً لما كان عليه حالها طوال العقود الماضية. فهي قد تلقت ضربات تسببت بإضعاف صدقيتها. فسياسة القوة التي ارتكزت عليها المنظمات الصهيونية لإقامة إسرائيل -وما زالت قائمة بفضلها- تواجه صعوبات كبيرة، فيما تفقد أعداد متزايدة من الإسرائيليين الثقة بها، لأنها لم توفر لهم الأمن والأمان. فالتقرير الأولي للجنة "فينوغراد" حول الحرب الإسرائيلية السادسة على لبنان (2006)، وصف فشل القيادة الإسرائيلية في الحرب 164 مرة. وكشف تقرير مراقب الدولة (حول دور الجبهة الداخلية خلال الحرب) تقصيرات كثيرة، مثلما كشفت تحقيقات لجان قضائية مختلفة وجود فساد مستشر وانتهاكات قيمية وأخلاقية في أوساط قادة الصف الأول من السياسيين والعسكريين. وقد انعكس فقدان الثقة بالقيادة الإسرائيلية في خلاصة بحث الدكتور "أودي لابل" الذي قال: "لقد وصلنا إلى وضع مجنون، فبدلا من أن يصغي الجمهور الإسرائيلي إلى الحقيقة عن طريق التصريحات الإسرائيلية لما يحدث كل يوم، تحول (الشعب الإسرائيلي) إلى تصديق ما يقوله (نصر الله) قائد العدو الذي نحاربه". ولأزمة "الثقة" هذه ارتباط عضوي بأزمة "الهوية" التي تشكل موضوع مقال الأسبوع القادم.