في خضم أحداث وأزمات السياسة العالمية، تبدو بعض المؤتمرات جديرة بالاهتمام لأن التركيز عليها بعض الشيء ينير لنا الطريق إلى أسباب النجاح حتى نكرره أو الفشل حتى نتجنبه. والمثل الذي يأتي إلى ذهني لأني لاحظته عن كثب هو مؤتمر القمة الثاني لمنظمة المرأة العربية (أبوظبي 11-13 نوفمبر 2008). لأول وهلة لا يبدو هناك شيء غير عادي عن هذا المؤتمر، فهناك مؤتمرات أخرى قد تخطف منه الأضواء: مثلاً مؤتمر العشرين عن الأزمة المالية العالمية، المؤتمرات الإقليمية أو الدولية عن القرصنة في البحر الأحمر... ومع ذلك فالتعقيبات العربية والدولية التي لا تزال تصلني، تبين أن مؤتمر أبوظبي وتداعياته لم يضع وسط هذا الزحام أو "العجة" الدولية كما يقول الشارع اللبناني. والسؤال المهم إذن: لماذا هذه الاستمرارية الهادئة لأعمال المؤتمر بدلاً من أن يندثر ويطويه النسيان؟ تجربتي تشير إلى أربعة أسباب على الأقل: أولاً: تحديد الهدف بوضوح والالتزام بخطوات محددة لنجاحه: كان هدف منظمة المرأة العربية من البداية، هو حوار عربي دولي عن قضيتين من أهم قضايا القرن الحادي والعشرين: الأمن وعلاقته بوضع المرأة عربياً ودولياً. وفي عالم المعرفة الذي يسيطر على الجميع، عملت المنظمة على تزاوج سعيد بين العلمي والسياسي. وبمنطق "اعط العيش لخبازه"، احترمت المنظمة أهمية التخصص، واستدعت لجنة علمية من الخبراء لضمان إعداد أوراق بحثية. وكانت النتيجة أن كل ورقة تمر بثلاث مراحل في إعدادها، بدءاً من المخطط التمهيدي حتى النسخة الأولى، فالثانية، ثم الترجمة إلى العربية أو الإنجليزية. كانت هذه اللجنة صارمة في معاييرها وأعمالها، وللحق احترمت المنظمة استقلاليتها كشرط أساسي لعملها، ولذلك فالورقة التي لم ترق إلى المستوى المطلوب، كان يتم رفضها، وذلك دون حساسية ومن أجل ضمان سمعة العرب في هذا الحوار العربي -الدولي. ثم كانت كل الأوراق جاهزة في يوليو أي أربعة أشهر قبل بداية المؤتمر. ثانياً: أهمية موضوع المؤتمر: رغم أن الأمن هو احتياج طبيعي للأفراد والجماعات منذ بدء الخليقة، إلا أن المناقشات العالمية تزداد حالياً وبشدة عن المفهوم والوسيلة الناجعة لتحقيقه: هل هو ضمان الأمن العسكري للدولة أم هو أمان الإنسان، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً؟ في وسط هذا الجدل العالمي المهم، كان العرب غائبين، ولذلك كان اختيار هذا الموضوع لمؤتمر أبوظبي موفقاً. وفي نهاية المؤتمر اتضح الإسهام العربي في هذا الجدال المهم، ليس فقط كناقلين أو مستهلكين لأفكاره، بل مُطوِّرين لها، فهم مثلاً ضد الاستقطاب المفرط بين أمن الدولة وأمان مواطنيها، والربط بينهما ضروري لأن أمن الدولة دون أمن المجتمع يصبح غطاء أجوف وهشاً. بل ذهب العرب إلى أكثر من ذلك للقيام بخطوة ريادية فعلاً، وهي الربط بين الأمن ووضعية المرأة. وفي الواقع لا يزال هذا الربط غائباً في معظم الأدبيات والسياسات العالمية، لذلك لاحظ الخبراء الأجانب هذه الريادة العربية، والتي لا شك سيكون لها تأثيرها على صورة العرب دولياً، لأن التصورات الدولية عن المرأة العربية لا تزال مشوهة، بل أصبحت هي المحك للحكم السلبي على مجتمعاتنا. ومن هنا كانت أهمية هذا الربط مع موضوع الأمن والأمان، بطريقة مباشرة ودون لف ودوران منذ ورقة المؤتمر الافتتاحية: "الرؤى العالمية للأمن والأمان: هل تم أخذ المرأة في الاعتبار؟". فقد تميزت منظمة المرأة العربية ورئاستها لهذه الدورة في أبوظبي بالشجاعة في طرح موضوع شائك، ثم عالجته بموضوعية وعلمية متقنة منذ البداية، وبالتالي تميز المؤتمر بالتجديد والمصداقية منذ اللحظة الأولى، كما قال لي شفاهية وكتابة الكثير من الخبراء العرب والأجانب. ثالثاً: تميز هذا المؤتمر فعلاً بحضور دولي كثيف على عكس الكثير من المؤتمرات العربية الرسمية، فبالرغم من اقتصار الأوراق البحثية على خبراء عرب، إلا أن معظم التعقيب المعد كتابة قبل المؤتمر وأثناء انعقاده، كان من خبراء أجانب ومن الأمم المتحدة أو من أساتذة كبريات الجامعات: إكستر وأكسفورد وبرلين وكولومبيا. محاضر المؤتمر تبين مواجهة فكرية ثرية وراقية بين العربي والدولي، ويبدو أن الكثيرين من الأجانب لم يتوقعوا هذا المستوى الرفيع من الأوراق، وزاد من معلوماتهم الآن اكتشاف الإسهام العربي حول هاتين القضيتين المهمتين: الأمن والمرأة. أصبح العرب حاضرين في هذا النقاش العالمي إذن، ليسوا كمستهلكين سلبيين ولكن كمنتجين ومطورين للأفكار العالمية. فقد أوضحنا مثلاً الرأي العربي في رفض الاستقطاب بين المفهوم العسكري للأمن والمفهوم الاجتماعي الشامل للأمان وأهمية الجمع بينهما. كما كان هناك إسهام عربي آخر وهو فضح إساءة استعمال مفهوم الأمان الإنساني لتسويق ما يسمى بـ"التدخل الإنساني" وانتهاك سيادة الدول لخدمة مصالح خاصة، كما حدث منذ فترة الاستعمار في القرن التاسع عشر. ولا يتسع المجال لسرد كل تفاصيل هذا الحوار العربي -الدولي الثري، لكن المهم هو ما أحاط به من فاعلية وتراكم علمي وسياسي مما أضفى عليه الكثير من المصداقية، وهذا يؤدي إلى العامل الرابع. رابعاً: دقة التنظيم، والاقتناع بأن الشكل لا يقل عن المضمون أهمية، في الحقيقة نرى الكثير من المؤتمرات -العربية والدولية أيضاً- حيث يكون المضمون قوياً ولكن يُجهض بعض الشيء لأن إخراجه لا يتم بالشكل المطلوب، لم يحدث هذا في مؤتمر أبوظبي، فمثلاً الاستقبال في المطار كان محكماً، سواء جاء الضيوف المشاركون من جنوب أفريقيا، أو دول الكاريبي، أو فرنسا أو الولايات المتحدة... ثم إنه تم تجهيز كل أوراق المؤتمر ووثائقه من جانب مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية قبل انعقاد المؤتمر، وكان العمل برمته مهنياً ومشرّفاً وكاملاً، من مراسم الاستقبال والتوديع، إلى ملخص الأوراق والسير الذاتية... كما أن مداولات المؤتمر نفسه كانت ناجحة، لأن اللجنة العلمية ارتكزت على هذا الإعداد الوثائقي المشرف للاجتماع برئيسات الوفود قبل المؤتمر ليقمن برئاسة جلسات المؤتمر نفسه، ويتقيدن بالقواعد الدولية والتزام الوقت المحدد لكل متحدث رئيسي ومعقبه وكذلك موضوع المناقشة. وقد التزمت رئيسات الجلسات المختلفة بهذه القواعد بصدق وحرفية، وأثار هذا إعجاب الكثيرين، بمن فيهم السيدات الأوائل اللاتي اشتركن في الجلسات وحتى المناقشة. كما اكتملت هذه المصداقية في الشكل بالتغطية الإعلامية المتميزة من جانب الصحف ووكالات الأنباء التي كانت حاضرة لتغطية المؤتمر. هناك الكثير الذي يمكن إضافته عن أسباب النجاح الواجب إثباتها في مؤتمراتنا، لكن لا تتسع المساحة للأسف، غير أن الرسالة الآن واضحة من أجل الدفاع عن سمعتنا العربية، خاصة أنه في أقل من شهرين سينعقد في الكويت مؤتمر القمة الاقتصادية الذي طال انتظاره. والسؤال: هل يستطيع رجال العرب الاستفادة من تجارب مؤتمر النساء في أبوظبي؟