يعتقد بعض مؤرخي الطب أن أطباء العصور القديمة، مثل الطبيب اليوناني "أبوقراط"، وأطباء العصور الوسطى مثل الطبيب المسلم "ابن سينا"، كانوا على دراية وعلم بواحد من أخطر الأمراض الُمعدية، وهو مرض الحمى الشوكية (Meningitis) أو التهاب الأغشية الخارجية المغلفة للمخ والمعروفة بالسحايا. ويعتقد هؤلاء أيضاً، أن مؤرخي وأطباء جميع العصور السابقة، لم يشيروا بإسهاب في كتاباتهم ومخطوطاتهم إلى هذا المرض، بسبب وقوعه حينها في شكل حالات منفردة متباعدة، وهي الخاصية التي تغيرت لسبب ما في القرنين الماضيين، حيث سجل أول وباء من التهاب السحايا في مدينة "جنيف" السويسرية عام 1805. ثم تبعتها مباشرة سلسلة من الأوبئة في الولايات المتحدة ودول أوروبا المختلفة، وبعض مناطق أفريقيا عام 1840. ومع حلول القرن العشرين، أصبحت أوبئة التهاب السحايا تتكرر بشكل روتيني في القارة السمراء، التي أصبحت موطناً لما يعرف بحزام التهاب السحايا (Meningitis Belt)، الممتد من السودان وأثيوبيا وكينيا في الشرق، عبر تشاد والنيجر ومالي، إلى موريتانيا والسنغال وغينيا وساحل العاج، وبقية دول شرق أفريقيا. وإذا ما خصصنا الدول العربية بالذكر، فسنجد أن أوبئة التهاب السحايا لا زالت تقع بشكل متكرر في كل من مصر، والسعودية، والمغرب، وموريتانيا، وهو ما ينطبق أيضاً على العديد من دول العالم الأخرى مثل الهند والصين والبرازيل. وحتى الدول التي تتمتع بنظم صحية حديثة ومتطورة، لا تسلم هي الأخرى من أوبئة محدودة النطاق من الحمى الشوكية بين الحين والآخر. ولكن إذا ما كان من غير المعروف سبب تحول التهاب السحايا من مرض يصيب حالات متباعدة منفردة، إلى أوبئة منتظمة متكررة، فمما لا يخفى على أحد خطورة المضاعفات التي تنتج عن هذا المرض. ولإدراك فداحة هذا المرض ومضاعفاته، يكفي أن نعلم أن نسبة الوفيات بين الأطفال الرضع وحديثي الولادة تتراوح ما بين 20% و30%، أي أن طفلاً واحداً من بين كل ثلاثة أطفال يصابون بالمرض، يلقى حتفه في النهاية. وتنخفض نسبة الوفيات بقدر كبير بين الأطفال الأكبر سناً لتصل إلى 2% فقط، إلا أنها تعود لتشهد زيادة واضحة مرة أخرى بين البالغين، حيث تبلغ نسبة الوفيات بالمرض بين البالغين قرابة 40%. وهو ما يجعل الحمى الشوكية ضمن قائمة محدودة من الأمراض المعدية التي تؤدي إلى وفاة مثل هذه النسب الهائلة من المرضى. وكثيراً ما يتعرض من ينجو بحياته من الأطفال لإعاقات مستديمة، مثل الصمم العصبي-الحسي، والصرع، وصعوبة التعلم، والاضطرابات السلوكية، وانخفاض مستوى الذكاء لدى الأطفال. أما الناجون من الكبار، فكثيراً ما يتركهم المرض بضعف في السمع، أو بتدهور ملحوظ في القدرات العقلية والذهنية. وتتعرض الأغشية المغلفة للمخ للالتهاب من جراء أسباب عديدة، وإن كانت العدوى بالجراثيم مثل الفيروسات والبكتيريا والفطريات هي أكثر تلك الأسباب شيوعاً. ومن بين الأسباب الجرثومية تلك، تعتبر العدوى البكتيرية أخطرها على الإطلاق، بسبب شدة مضاعفاتها. وتنتقل العدوى بالبكتيريا المسببة لالتهاب السحايا البكتيري، عن طريق الإفرازات والرذاذ التنفسي، من خلال العطاس أو الكحة أو مشاركة أدوات الطعام والشراب. وغالباً ما يتم هذا الانتقال بين الأشخاص الذين يقضون فترة طويلة من يومهم في أماكن مغلقة ومزدحمة، كما هو الحال مع طلاب المدارس والجامعات، وبين المجندين العسكريين. وتتراوح فترة الحضانة، أو الفترة بين حدوث العدوى وظهور المرض ما بين يومين إلى عشرة أيام، مع متوسط أربعة أيام في الغالب. وتتشابه أعراض الحمى الشوكية مع أعراض أمراض تنفسية أخرى مثل البرد العادي إلا أنها تتسم ببعض العلامات المميزة. حيث تظهر الأعراض في البداية على شكل حمى شديدة ومفاجئة، تتبعها قشعريرة وشعور بالبرودة، بالترافق مع بعض المظاهر العصبية مثل الدوخة والارتباك الذهني، والإصابة بصداع حاد مستمر لا تخففه المسكنات. ويعاني المرضى في المراحل الأولى من الشعور بضيق شديد من الإضاءة الساطعة، وعدم تحمل الأصوات المرتفعة، ليصابوا لاحقاً بتوترات عضلية خفيفة، تعقبها تشنجات شديدة وهذيان. وتعتبر النقطة الأكثر أهمية على الإطلاق في موضوع الحمى الشوكية، هي ضرورة التعامل مع الحالات المشتبه بها على أنها طارئ طبي خطير، يتطلب العلاج داخل مستشفى على وجه السرعة. ونتيجة للمضاعفات الخطيرة التي تنتج عن الحمى الشوكية، شرع الكثير من الدول منذ الثمانينيات من القرن الماضي، في تضمين التطعيم ضد أحد أنواع البكتيرياHaemophilus influenzae type B المعروف عنه تسببه في شكل خطير من أشكال المرض، ضمن التطعيمات الروتينية التي تعطى للأطفال. هذا بالإضافة إلى أن التطعيم الذي يعطى للأطفال للوقاية من فيروس التهاب الغدة النكفية، يحقق هو الآخر وقاية من الحمى الشوكية التي تنتج عن مثل هذا الفيروس. ويتوفر حالياً تطعيم ضد أربعة أنواع من البكتيريا التي تسبب الحمى الشوكية (Quadrivalent Vaccine)، وهو أحد متطلبات الحصول على تأشيرة الحج، وخصوصاً من الدول التي تقع ضمن نطاق حزام الحمى الشوكية. أما في حالة التعرض للميكروب فقط، من خلال التواجد بمقربة من شخص مصاب بالمرض، فلابد حينها من تعاطي برنامج كامل من المضادات الحيوية، كنوع من الوقاية الكيميائية المبكرة (Prophylaxis). وهذا الأسلوب، وإن كان يحقق وقاية فورية ضد العدوى المباشرة، إلا أنه على عكس التطعيمات، ليس ذا قيمة على صعيد الوقاية المستقبلية.