يثير قرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأخير بالدعوة إلى انتخابات تشريعية ورئاسية مطلع العام المقبل الكثير من الاستغراب، لأسباب منها أن هذه الدعوة قد لا تكون في مصلحة حركة "فتح" ذاتها، التي يقودها عباس. ولا يداني هذا القرار غرابة إلا قرار حركة "حماس" عدم الذهاب للحوار الوطني في القاهرة، بعد أن قالت الحركة لشهور طويلة إنها تريد حواراً غير مشروط، وكانت ترفض أية شروط تضعها "فتح" لبدء الحوار، ولا يمكن فهم القرارين، إلا في أن الحركتين تستهدفان المزيد من التأزيم في الشارع الفلسطيني. أول وجوه الغرابة في قرار عباس، أن النظام السياسي الرئاسي، وفق النموذج الفلسطيني، الذي هو قريب من النموذج الفرنسي، حيث انتخابات الرئاسة منفصلة عن البرلمان، يفترض مبدئياً في حالة وجود خلاف بين مؤسسة الرئاسة والبرلمان، أن يلجأ أحدهما إلى الانتخابات. وفي حالة لجوء الرئيس إلى الانتخابات الرئاسية المبكرة، بسبب أزمة معينة بينه وبين البرلمان، وبين حزبه والحزب الذي يسيطر على البرلمان، (وطبعاً انتخابات الرئاسة الفلسطينية ليست مبكرة)، فإن مثل هذه الانتخابات تعد نوعاً من الاستفتاء حول نقطة الخلاف بين الطرفين، فإذا فاز الرئيس مجدداً كان ذلك انتصاراً شعبياً ضد البرلمان والمعارضة، ولو حدث هذا في الحالة الفلسطينية لأمكن القول إن الشعب اختار "فتح". والواقع أن المتأمل لردود فعل "حماس" على دعوة عباس، يلمس تخبطاً في موضوع انتخابات الرئاسة، وتهرباً من مناقشة هذه القضية بالاعتراض على الانتخابات التشريعية، فـ"حماس" على رغم إثارتها موضوع ولاية "عباس" الرئاسية، لا تبدو راغبة في انتخابات رئاسية، بقدر ما تريد فراغاً دستورياً، يخرج عباس رسمياً من موقع القيادة، ويسمح لها بالادعاء أن المجلس التشريعي المنتخب، هو الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين، والدعوة لانتخابات رئاسية يمكن أن يكون عامل إجماع وطني فلسطيني وسيسيء لنفسه كثيراً من يرفض تسهيل إجراء هذه الانتخابات. ثاني وجوه الغرابة، أن عباس يدرك أن جمع "فتح" وجماهيرها لتأييد مرشح الرئاسة أسهل كثيراً من جمعها في عملية انتخابات تشريعية، خصوصاً مع الانقسامات الراهنة في الحركة على خلفية ملفات عدة، أحدها شروط انعقاد المؤتمر العام للحركة، الذي لم تمض أيام على إعلان عباس أنه سينعقد قبل نهاية العام حتى تم إعلان تأجيله للعام المقبل. والواقع أن انقسامات حركة "فتح" حالياً أكبر منها عند انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، فعلى رغم انعقاد مؤتمرات حركية عديدة للحركة في الضفة الغربية، إلا أنه وفي المستويات العليا تبدو الخلافات غير مسبوقة، بما في ذلك شبه القطيعة بين محمود عباس وأحمد قريع، وبينه وبين فاروق القدومي، وعلامات الاستفهام الكثيرة حول مستقبل أشخاص مثل محمد دحلان وروحي فتوح. والخلاف المتزايد من قبل قيادات في حركة "فتح" وأعضاء في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية من جهة، وبين حكومة سلام فياض من جهة أخرى. والواقع أن انتخابات رئاسية كان يمكن أن تكون ورقة بيد عباس، داخل "فتح" ذاتها، فذلك قد يوحد الحركة خلفه، وإذا فاز بالانتخابات، فإن هذا سيقوي موقفه داخل الحركة، ويساعده على فرض الإصلاح فيها. وبالمثل فإن مسألة انتخاب الرئيس عباس من قبل المجلس المركزي لمنظمة التحرير، رئيساً لدولة فلسطين، يبدو غريباً بسبب توقيته، وعلى رغم أن أعداداً كبيرة من الناس بمن فيهم سياسيون ومتخصصون في الشأن الفلسطيني، كانوا يعتقدون أن عباس هو رئيس دولة فلسطين، بحكم أنه رئيس منظمة التحرير، فإن توقيت انعقاد المجلس يبدو جزءاً من محاولة الالتفاف على إشكالية موعد نهاية ولاية رئيس السلطة الفلسطينية. كما أن طريقة عقد المجلس، دون مشاركة الكثيرين من أعضائه، تعزز طروحات المشككين في استقلالية المجلس وفي شرعيته. هناك الكثير من المنطق في الدعوة لانتخابات تشريعية فلسطينية، بجانب الرئاسية، وذلك بهدف إعطاء الشعب حقه ليقول رأيه مجدداً، ولكن طالما كانت "حماس" ترفض ذلك مسلحة بقوانين وقرارات، أقرها المجلس التشريعي الفلسطيني، يوم كانت "فتح" تسيطر عليه، فإن هذا يعني أن انتخابات رئاسية (فقط)، يمكن أن تعني في حالة فوز "عباس" فيها تفويضاً مهماً جداً لإحداث الكثير من الإصلاحات في النظام السياسي الفلسطيني.