عقب اجتماع لمجلس الوزراء العراقي عقد في بغداد يوم السادس عشر من نوفمبر الحالي، أُعلن أن 27 عضواً من أصل 28 كانوا حاضرين في ذلك الاجتماع، قد وافقوا على الاتفاقية الخاصة برحيل القوات الأميركية من العراق، هذا مع العلم أن هناك تسعة أعضاء آخرين لم يكونوا موجودين في الاجتماع إذ أرادوا، على ما يبدو، أن لا يربطوا أنفسهم بتلك الموافقة. وقد جاء قرار مجلس الوزراء ليكون بمثابة بشرى خير لمسودة الاتفاقية التي واجهت مصاعب كبيرة، والتي يتوقع أن تتوصل المملكة المتحدة عما قريب إلى اتفاقية مماثلة لها مع العراقيين. النقاط الرئيسية في تلك الاتفاقية هي أن جميع القوات الأميركية سوف ترحل عن العراق بحلول نهاية ديسمبر 2011 على أن تبدأ في الانسحاب من البلدات والمدن الرئيسية في هذا البلد بحلول صيف العام القادم. وقد أصبح في مقدور العراق بموجب هذه الاتفاقية، محاكمة الجنود الأميركيين على أي جرائم كبرى يقومون بارتكابها عندما لا يكونون مكلفين بمناوبات أو عندما يكونون بعيدين عن قواعدهم، كما أصبح بمقدور العراقيين أيضاً -بموجب تلك الاتفاقية- تفتيش شحنات الأسلحة والمواد العسكرية المرسلة إلى أشخاص غير مرخص لهم باستخدامها، كما سيكون بمقدورهم كذلك مداهمة منازل محددة بشرط الحصول على موافقة من أحد القضاة المحليين. وعلى ضوء الغارة الأخيرة التي قام بها كوماندوز أميركيون على سوريا، وأدت إلى مصرع عدد من المدنيين، تقرر في تلك الاتفاقية أيضاً عدم جواز استخدام القوات الأميركية للأراضي العراقية في شن هجمات على الدول المجاورة. وهذه الاتفاقية التي يدعو البعض -وخصوصا من العرب السنة- لإجراء استفتاء وطني عليها، والتي تلقى كذلك معارضة كبيرة من جانب جيش المهدي، أظهرت أن الحكومة العراقية التي يقودها نوري المالكي كانت على استعداد للتصدي للولايات المتحدة في الموضوع الخاص بتاريخ الانسحاب، وغيرها من الموضوعات المهمة والحساسة، وهو ما لم يَرُق للكثير من الجهات داخل أميركا. فالكونجرس على سبيل المثال، لم يستسغ فكرة مثول الجنود الأميركيين أمام محاكم عراقية. وأنا شخصياً أعتقد أن السبب الذي دعا العراقيين للتصدي للأميركيين في كثير من بنود الاتفاقية، على الرغم من النجاحات الأخيرة التي حققتها قواتهم في العراق، والتي لا ترجع إلى زيادة عدد القوات وحدها، هو أن الغالبية العظمى من العراقيين متلهفون، على أن يظهروا لأنفسهم، ولجيرانهم العرب، أنهم قد أصبحوا الآن قادرين، بعد مرور ما يزيد عن خمس سنوات على الغزو، على الوقوف على أقدامهم والاعتماد على أنفسهم. والحقيقة أنه لن يكون سهلا على العراقيين أن يقفوا على أقدامهم ويعتمدوا على أنفسهم. أقول ذلك على الرغم من أنني، وآخرين غيري، ممن يتمنون التوفيق للعراقيين في ذلك. هناك أسباب عديدة تدعوني لقول ذلك؛ منها على سبيل المثال أنه في كل شهر تقريباً، يتعرض مئات العراقيين للقتل والتشوية بسبب قنابل المتمردين ورصاصهم وعبواتهم الناسفة، وأن هناك مناطق لا تزال مضطربة وغير مستقرة إلى حد كبير، لاسيما شمال بغداد، وأنه لم يتم حتى الآن تحديد مستقبل كركوك الغنية بالنفط، والتي يسيطر عليها الأكراد حالياً، على الرغم من أن المالكي قال في مقابلة أجرتها معه صحيفة "التايمز"، إنها مدينة تابعة للحكومة الفيدرالية وتقع كلياً خارج حدود منطقة كردستان. يضاف لذلك أن الكثيرين من السنة يشعرون بأنهم لم يحصلوا على صفقة جيدة من تلك الاتفاقية، وأن الكثير من موارد العراق يجب أن تكون في أيديهم. وهناك أيضاً حقيقة أن الحكومة العراقية لم تتفق حتى الآن على الطريقة التي سيتم بها توزيع ثروة العراق النفطية، وأن هناك موضوعات أخرى حساسة لم يتم الاتفاق عليها، منها مصير آلاف السجناء السنة الموجودين الآن في سجون القوات الأميركية، وفي سجون الحكومة العراقية، والذين تدعي الغالبية منهم أنهم أبرياء. ومن تلك الأسباب أيضاً أن تركيا لم تتردد في إرسال قواتها العسكرية إلى شمال العراق لتعقب المتمردين من "حزب العمال الكردستاني"، رغم الرفض البات من جانب بغداد لذلك. فعلى الرغم من أن الأتراك قد خرقوا القانون الدولي بفعلتهم تلك، إلا أنه مما خفف من آثارها هو وجود القوات الأميركية في العراق، وضبط النفس الذي مارسه الأتراك أثناء تلك العملية. أما إذا قامت تركيا بعمليات مماثلة ضد المتمردين الأكراد الذين يتخذون من شمال العراق ملاذاً لهم، بعد رحيل القوات الأميركية، فإن ذلك العمل سوف يبدو في نظر بغداد حينئذ أكثر خطورة مما كان يبدو عليه مع وجود الأميركيين. وعلاوة على ذلك، قام الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بزيارة تاريخية إلى العراق في شهر مارس الماضي، في محاولة منه لاستثمار فراغ القوة الموجودة هناك. والحقيقة أن زيارته قد ذكرت الكثيرين بالدور المهيمن الذي تمارسه إيران في العراق، وخصوصاً في المناطق الجنوبية التي كانت لاعباً رئيسياً فيها خلال السنوات الماضية، كما يعرف الجيش البريطاني جيداً. وإيران 2008، أقوى بكثير من العراق الذي سيجد نفسه مضطراً إلى التعايش معها كما سيجد نفسه مضطراً للتعايش أيضاً مع جيرانه الأكثر منه قوة بعد رحيل الأميركيين عنه. يشار إلى أن المحادثات بين الأميركيين والحكومة العراقية قد بدأت في شهر إبريل الماضي، وأن الحكومة العراقية قد اشتكت مراراً من أن تلك المحادثات مشوبة بالتوتر، وأن ثمة احتمالا لخروجها عن نطاق السيطرة، وهو ما دفع الرئيس بوش في شهر يونيو الماضي إلى الاتصال برئيس الوزراء نوري المالكي لحثه على محاولة تهدئة الموقف. هذا وكثيراً يتم تناسي أو تجاهل أن قوات التحالف موجودة في العراق إلى نهاية هذا العام، بموجب تفويض من قبل الأممم المتحدة. ومن المعروف أن الكثير من الأميركيين، ومن بينهم المرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة أوائل الشهر الجاري (جون ماكين)، كانوا يحبذون فكرة وجود قواعد عسكرية أميركية لمدة طويلة في العراق، على غرار القواعد الأميركية الموجودة في كوريا الجنوبية منذ خمسينيات القرن الماضي، لكن الاتفاقية الجديدة جاءت لتستبعد ذلك الاحتمال، وهو أمر يستحق الكثير من الاهتمام.