العقلانية لا تزيد عن وهم، والتفكير قد يساعد لكنه قلما ينفع! والإنسان نصف مجنون وربع معتوه وبقايا من أبله! هذا ما وصلت إليه أبحاث دان أريلي من كلية الطب في هارفارد في الإجابة على السؤال: لماذا يتصرف البشر في أيامهم العادية على نحو غير منطقي؟ عندما كان الدكتور أريلي في سن الـ18 عانى من كارثة مدمرة لصحته، فقد انفجرت بجانبه قنبلة فوسفورية أدت إلى حرقه على نحو كامل تقريباً! وبقي ثلاثة أعوام ملفوفاً بالخرق، من مفرق رأسه حتى أخمص قدميه. وفي هذه الظلمات من أجواء المشافي والألم، لم يكن أمامه إلا أن يواجه الذات بأسئلة الحياة الكبرى. ما معنى القدر؟ ما معنى الموت والحياة والشيخوخة والألم؟ ما معنى الشباب والفناء؟ لماذا يحب الرجل امرأة دون سواها؟ لماذا يهم الإنسان أن يعرف ماذا يقول عنه الآخرون؟ ولماذا كانت سمعة الإنسان محورية؟ وبعبارة أخرى؛ ما الذي يحرك الإنسان في هذه الحياة؟ هل هو الخوف من الموت، أم الجوع للعلم، أم عشق المرأة والجنس، أم الطعام؟ وفي هذه الزوايا حام علماء النفس كثيراً، فظهرت مدارس تحليلية لفرويد وآدلر ويونج، وارتقائية لبياجيه، وإنسانية لفيكتور فرانكل وماسلو، وسلوكية لواطسن وسكينر. وحين استرد دان أريلي عافيته، آوى إلى علم النفس، لفك السر خلف جنون الإنسان في الحب والحرب معاً. ودان أريلي اليوم بروفيسور للسلوك الاقتصادي يدرس في جامعة ديوك في درهام بولاية كارولاينا الشمالية في أميركا، وقد كتب بحثاً مسلياً وغنياً بالتجارب عن جدل الإنسان المحير. وأهم ما ورد في الكتاب الذي صدر خريف العام الحالي، أن النظريات الاقتصادية المعتمدة حتى اليوم قد بنت نفسها على وهم قاتل، وهو أن الإنسان يتصرف بعقلانية، فيما الحقيقة أن بينه وبين العقلانية سبعة أبحر! وهو يذكر بمقالة "علي الوردي"، عالم الاجتماع العراقي المشهور؛ والتي توضح أن آخر ما يفكر فيه الإنسان هو المنطق والعدالة، فالعقل عند الإنسان هو عضو للبقاء، مثل ساق النعامة وناب الأفعى وقرن الثور ودرع السلحفاة. وقال الوردي: مَنْ سمعته يكثر من الحديث عن العدالة والمنطق، فاعلم أنه خارج العقل والعدل والمنطق. يقول أريلي أيضاً إن أجيالاً من الناس منذ أيام "آدم سميث" بنوا أفكارهم على هذه القاعدة الهشة والأرض السبخة، وهو ما أضر بنقل هذه الأفكار وتطبيقها في فروع شتى من علوم الحياة، من النظام الضريبي إلى سياسة الصحة إلى أسعار السلع والخدمات. والحقيقة أن البشر يتصرفون، كما في التجارة والحب، على نحو غير منطقي بل حافل بالجنون مما لا يمكن توقعه، ويكرر البشر نفس الأخطاء دون أخذ العبر منها! وقد دعم دان أريلي آراءه المثيرة بتجارب من حقول شتى؛ من البيع والشراء، والقرارات الشخصية، وأثر الجنس في دفع الإنسان إلى الهاوية... فأتى بمجموعتين من الطلبة الشباب وعرض عليهم زجاجات من معتق الخمر على شاشة الكمبيوتر وخانات ووضع أرقاما و"ماوس" للتحريك، وطلب منهم الرقمين الأخيرين من بطاقات الضمان الاجتماعي التي يحملونها، ثم طلب منهم دفع الثمن الذي يرونه مناسباً لدنان الخمر. ومن الغريب أنه اكتشف أن من انتهى رقمه في بطاقة الضمان الاجتماعي عالياً (بين 80 و99) طرح رقماً منافسا عاليًا وصل إلى 116 حتى 246% أكثر من الآخرين، ومن كان رقمه في الحضيض (بين صفر و19) دفعوا ثمناً بخساً! وهذا يعني بكلمة أخرى أن قرارات الشراء والبيع تخضع لتأثيرات عشوائية، ويمكن التلاعب بها، وهذا ما ينقض قانون العرض والطلب الذي يحكم السوق، والذي اتضح أنه دين الاقتصاد المزيف، بحيث يخدم مصالح الناس ولا يخدم، كما هو المظنون به في علم الاقتصاد التقليدي، والأصح استبداله بقانون أهواء النفوس والأمزجة!