بعد أن انقلبت "حماس" على السلطة ومكّنت لنفسها، واستطاعت "حمسنة" غزة، سعت للدعوة للمصالحة مع "فتح" وكان شرط الرئيس محمود عباس لقبول المصالحة، عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الانقلاب، وساقت "حماس" الوساطات العربية والدولية لإقناع عباس بالحوار دون شروط، لكن بدون جدوى، إلى أن استطاعت السعودية جمع إخوة النضال المتنازعين في مكة، وتعاهدوا تحت أستار الكعبة وسرعان ما نقضوه. وبذلت اليمن جهداً كبيراً وجمعت الطرفين في صنعاء وقبل أن يجف حبر الاتفاق، نقضوه، وعادوا أشد خصاماً، ثم قامت مصر بجهود مضنية بعد أن تجاوزت الحالة الفلسطينية كل الخطوط الحمراء، واخترقت كل الثوابت لتحقيق المصالحة الوطنية عبر "صفقة إقليمية" شاملة لترتيب البيت الفلسطيني وتوحيد مؤسسات السلطة في الضفة وغزة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية وإعادة فتح معبر رفح وإتمام صفقة تبادل 150 أسيراً فلسطينياً مقابل الجندي الإسرائيلي الأسير وتمديد العمل بالتهدئة بين إسرائيل و"حماس". وضعت مصر كل ثقلها لإنجاح "الحوار الوطني الفلسطيني" الذي كان مزمعاً عقده بالقاهرة يوم 10 من الشهر الجاري حول مسودة الورقة المصرية التي عكست وبلورت القواسم المشتركة المتفق عليها بين كافة الفصائل، لكن "حماس" التي ملأت الساحة صخباً ومطالبة بالحوار والتي كانت تردد طوال الفترة السابقة بأن هناك "فيتو" أميركيا -أوروبيا على الحوار، وأن السلطة الفلسطينية لا تجرؤ على مخالفته، والتي -أيضاً- إلى آخر لحظة ظلت تؤكد لمصر حضورها، فاجأت الجميع -في آخر لحظة- بمقاطعتها للحوار، بحجة وجود معتقلين سياسيين من "حماس" في سجون السلطة، وهي حجة واهية، لأنه كان بإمكانها الحضور والمطالبة بإطلاق سراحهم أمام "الراعي المصري"! لماذا سكتت "حماس" على قضية المعتقلين ولم تثرها إلا قبل يوم واحد من الاجتماع؟ اضطرت مصر لتأجيل الحوار إلى وقت آخر ملائم، وقالت إنها لن تقاطع "حماس" رغم مناكفاتها واتهاماتها لمصر، ولن تتخلى عن مسؤوليتها تجاه تحقيق المصالحة المنشودة، لأنها تستشعر خطورة هذا الانقسام على مستقبل القضية، وصرحت بأنها تريد استثمار اجتماع وزراء الخارجية العرب، اليوم الأربعاء، في القاهرة لانطلاقة ثانية للحوار في الشهر القادم. لكن ما هي الأسباب الحقيقية لمقاطعة حماس "الحوار الوطني" بالقاهرة؟ وهل سيتخذ وزراء الخارجية العرب، موقفاً محدداً من "حماس" تنفيذاً لقرار سابق بإدانة من يعطل الحوار وكما طالب به "عباس" في خطابه؟ ولماذا تتظاهر "حماس" بتلهفها على الحوار والمصالحة ثم تجهض كل محاولات المصالحة؟ أتصور، وخلافاً لما ذهب إليه الدكتور وحيد عبدالمجيد في مقالته بـ"الاتحاد"، يوم الخميس الماضي، "إنقاذ القضية خير من لوم حماس"، أن السبب الحقيقي لتراجع "حماس" عن الحوار الوطني بالقاهرة هو "الراعي الإيراني" الذي أراد إفشال هذا اللقاء لسببين: الأول: إفشال الدور الإقليمي المصري باعتباره مهدداً لمشاريع وخطط إيران في المنطقة، لأن من شأن نجاح الدور المصري في حل "أم المشاكل العربية" تنشيط وعودة "الدور الإقليمي" لمصر، بعد غيبة طويلة، شغلت فيها مصر بأولوياتها الداخلية، ترى إيران في الدور المصري، عرقلة لتمددها في العمق العربي وإضعافاً لتأثيرها على حلفائها الإقليميين. الثاني: إن إيران تريد إبقاء الأزمة الفلسطينية بدون حل وهي التي ساعدت "حماس" على انشقاقها، ومكّنتها بالدعم والتمويل من البقاء رغم الحصار، والمصالحة في هذه المرحلة تعرقل مشاريعها الرامية إلى إبقاء فتيل الأزمات كأوراق للمساومة والتفاوض مع الإدارة الأميركية الجديدة لتحقيق مكاسب سياسية دولية تضمن استمرارها في الوصول إلى النووي -حلمها التاريخي الكبير- ولا أدلّ من تأثير العامل الخارجي على قرار "حماس"، من تصريح أحد قادتها بأن "الحركة لا تريد أن تستمر مصر في وساطتها من أجل الحوار، لأنها -بزعمه- فشلت في كل الملفات: الحوار والمصالحة والأسرى وشليط، وتريد حماس نقل الملف إلى دولة قطر لأن لها خبرة سابقة". هذا التصريح لا يصدر إلا ترضية لإيران التي ترفض أي دور إقليمي لمصر. لكن هذا "الحماسي" يتناسى أنه لولا الدور المصري لما رأت اتفاقية "التهدئة" النور، لقد نجحت مصر حيث فشلت كافة الوساطات الدولية في إقناع إسرائيل بالتهدئة. لقد بلغ ارتباط "حماس" بإيران درجة "الولاء" المقدم على أي ارتباط آخر، حتى قال ملك الأردن مقولته الشهيرة: "إن إيران خطفت الفصائل الفلسطينية". والشواهد تؤكده، ومنها: 1- تصريح "أبومرزوق" المستنكر لـ"إثارة" قضية الجزر الإماراتية المحتلة من إيران، وهو تصريح يصب في مصلحة إيران ويتجاهل المصالح القومية العليا! 2- تنكُّر "حماس" للشيخ القرضاوي في موقفه من "التشيع المذهبي"، إذ بعث "هنية" خطاباً لمرشد الثورة يبتهل فيه إلى الله أن يحفظ خامنئي ونجاد، رداً على القرضاوي في اتهامه إيران بالتخطيط لغزو البلاد السنية. لقد تناست "حماس" جهود القرضاوي بالأمس، حين جمع حشداً من العلماء في الدوحة (مايو 2006) حضره مشعل وصقور حركة "حماس"، لشد أزر الحركة في محنتها، ومساندتها في رفض مبادرة السلام العربية، لقد جمعوا لها التبرعات ودعموها سياسياً ودينياً لتزداد "حماس" تصلباً، وشجعوها لتزداد تمرداً. 3- إن هناك مصادر أفادت بأن مقاطعة "حماس" للحوار الوطني، جاءت على خلفية الرفض المصري لمحاولة إيران الدخول على خط الحوار الذي ترعاه مصر. 4- قال نبيل شعث: "إن السلطة أفرجت عن 103 معتقلين من قائمة تقدمت بها "حماس" تضم 180 فرداً، ومن تبقى هم من بعض "الأمنيين"، وهذا يؤكد ضعف حجة "حماس" ويقوي تأثير "العامل الخارجي". وفيما يتعلق بالسؤال الثاني، من المستبعد اتخاذ الوزراء موقفاً يدين "حماس"، لأنه يتطلب إجماعاً وذلك متعذر، رغم أن "حماس" استبقت الأمور وطلبت المشاركة في الاجتماع لشرح موقفها، لكن السلطة رفضت، ولا تستطيع الجامعة أن تدعو حركة (معارضة) لاجتماعها دون موافقة رئيس السلطة، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بموجب قمة الرباط 1974. كما أن تقرير مصر المقدم للاجتماع الوزاري لا يتضمن استصدار عقوبات على "حماس"، وإن تضمن انتقاداً مبطناً لها، وهذا يجعل الحل مائعاً على طريقة إمساك العصا من الوسط، وما لم يستطع العرب اتخاذ موقف صريح ضد المخطئ لإلزامه مسؤولية تصرفاته، فإن الأزمات ستتوالى وستجد فيها القوى الخارجية المتربصة منافذ لاتخاذ الحلفاء وشراء الولاءات وتعميق الانقسام. أما عن السؤال الثالث: فلا تفسير لتلهّف "حماس" على الحوار والمصالحة ثم تراجعها، إلا أنها تريد المناورة وشراء الوقت من أجل زيادة التمكين وترسيخ الشرعية الداخلية أملاً في كسب الشرعية الخارجية، وهي لم تقم بانقلابها لتتراجع عنه وتترك السلطة لعدوتها، ثم هي تعلم يقيناً أنه لو أجريت انتخابات، ستخسرها، وهي اليوم لا ينقصها التمويل والقوة، لديها 18 ألف مقاتل، مصاريفهم الشهرية 16 مليون دولار مؤمّنة، وظهرها محمي بالهدنة، فلماذا تضحي بالسلطة في سبيل المصالحة؟! أما معاناة قطاع غزة: "الفاقة والفقر والحصار والجوع"، فليست من مسؤولياتها، بل مسؤولية مصر والعرب بسبب خضوعهم لإسرائيل وأميركا! ألم يغالط "مشعل" ويحمّل حكام العرب مسؤولية كل فلسطيني يموت في غزة؟! لكن إذا لم تستح فاصنع وقل وضلّل كما شئت! يرتكبون الخطايا بحق شعوبهم وعلى الآخرين دفع فواتيرهم، هل رأيت أضلّ من هؤلاء؟! "السُلطة" كانت تضع شروطاً للحوار وتنازلت، واليوم "حماس" هي التي تضع الشروط المسبقة للحوار، إنها الدائرة المفرغة.