في مثل هذه الأيام العصيبة التي يمر بها الشعب الفلسطيني كثيراً ما يأتي ذكر الرئيس الراحل ياسر عرفات: ترى لو كان عرفات لا يزال حياً، هل كان سيحدث الانقسام الحاد الذي يعصف بالفلسطينيين الآن؟ ما الذي كان سيفعله في مثل هذه الظروف التي تمر بها القضية الفلسطينية؟ هناك إجماع بين الفلسطينيين بأن عرفات كان في حياته رمزاً للقضية، وبسبب من هذه الرمزية كان صمام أمان أمام كل نزعات التشرذم والانقسام التي كانت موجودة داخل البنية السياسية لقوى النضال الفلسطيني. كان هناك، مثلا انقسام فلسطيني واضح حول اتفاق أوسلو، لكن تمكن عرفات من تمرير الاتفاق، وحشد تأييداً شعبياً له، على الأقل بين فلسطينيي الداخل. حتى فلسطينيو الشتات، ورغم تحفظاتهم الواضحة والمشروعة على أوسلو، وجدوا أنفسهم غير قادرين على نزع الثقة ممن يسمونه بـ"القائد الرمز". بل لا يزال الفلسطينيون، في الداخل والخارج، يحملون لعرفات الكثير من الحب والإعجاب وسط معاناتهم التي ازدادت بعد رحيله. كل ذلك صحيح، لكن في صلب الموقف الفلسطيني من أبو عمار هناك علامات ارتباك واضحة، وهو ارتباك لا يمس صدق مشاعر الإعجاب، كما لا يمس القناعة بإخلاص عرفات. لكنه ارتباك يبدو وكأنه بين حب مبني على الثقة والإعجاب بإخلاص القائد ورمزيته، مقابل إنجازات لا تتناسب حسب البعض في حجمها مع حجم هذه الرمزية التي يتمتع بها القائد الراحل. إذا كانت الرؤية على هذا النحو، هل هناك مبرر للتساؤل عما إن كان عرفات قادراً على منع الانقسام لو قدرله أن يعيش حتى أيامنا هذه؟ هذه المفارقة في الموقف الفلسطيني من الراحل عرفات، تعكس مفارقة أوسع بين قضية شعب عانى أقسى محن القرن العشرين، وبداية الحادي والعشرين، وتعتبر قضيته بكل المقاييس أعدل قضايا القرن، ومع ذلك فقيادته لم تبرهن حتى الآن على أنها في مستوى القضية، أو أنها تستشعر درجة معاناة الشعب الذي قَدّر لها أن تكون في مركز القيادة منه. ربما تبدو تلك المفارقة في أوضح صورها فيما يقوله القيادي الفلسطيني ياسر عبدربه عن الرئيس الراحل في حديث الذكريات الذي تنشره صحيفة "الحياة" على حلقات هذه الأيام. ولعل عبدربه كان قاسياً مع قائد الثورة، لكنه ربما كان قاسياً مع نفسه أيضاً ومع الشعب عندما يذهب إلى هذا الحد في كشف بعض من أوراق الذكريات عن القائد على هذا النحو. وللحقيقة، ليس هناك من جديد حقاً فيما يقوله عبدربه. لكن ما يقوله لافت لأنه يأتي من أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية، وأحد القيادات التي عايشت، وعملت مع عرفات لأكثر من خمس وثلاثين سنة. وما يقوله لافت أيضاً من حيث أنه يعيد وبشكل مباشر أسباب تلك المفارقة إلى مثالب خطيرة في تفكير عرفات السياسي. فعرفات حسب عبدربه "كان يعتقد أنه أفضل المفاوضين مثلما كان أفضل العسكريين والسياسيين والإداريين وفي كل الأمور". كان ياسر عرفات، حسب عبدربه "يريد السلطة الكاملة على المصادر المالية. كان يريد السيطرة على مصادر الدخل والتصرف بها كما يرتأي لتعزيز دوره ونفوذه. كان يريد أن يكون صاحب القرار في المسائل المالية، وأن يكون لديه دور قيادي من خلال الإمساك بالسلطة، ويريد الحصول على صلاحيات أكثر من الإسرائيليين إلى حد أنه في اتفاق القاهرة كان يطالب بإعطائه لقب رئيس السلطة". ثم يضيف: "كل هياكل السلطة ورموزها بما فيها لقبه، هو ما كان يهمه في المفاوضات"، و"كان همه توسيع نفوذ السلطة وصلاحياتها بغض النظر عن توسعها الجغرافي." بعبارة أخرى، كان عرفات مسكوناً بمسألة سلطاته الشخصية، وتوسيع دائرة هيمنته على القرار. كان انشغاله بمسألة السلطة على حساب الأرض. وهذا، إذا كان دقيقاً، يلقي الكثير من الضوء على قيادة عرفات، ويعكس طريقة تفكيره السياسي. بل يذهب عبدربه إلى القول بأن عرفات أنشأ تحت مظلة سلطة أوسلو نظاماً عربياً تقليدياً، حيث عمل ونجح في أن "يكون لديه جيش اسمه قوات أمن فلسطينية، وعمل أكثر من 12 جهازاً أمنياً بين استخبارات وأجهزة أخرى، معظمها كانت تتصارع فيما بينها". إذا أضفنا إلى ذلك ما قاله عبدربه عن مفاوضات أوسلو، تبدو الصورة أسوأ من ذلك. وفي هذا القول شيء من الإجابة على السؤال الذي بقي حائراً حتى الآن عن السبب الذي منع المفاوض الفلسطيني بداية من إدخال شرط وقف الاستيطان الإسرائيلي ضمن بنود الاتفاق الذي عرف بهذا الاسم. من المهم الاستشهاد هنا بما قاله عبدربه عن هذا الموضوع حتى ولو كان طويلا. يقول: "هاجس عرفات في عملية المفاوضات لم يكن الحرص على الجغرافيا، بل الحرص على توسيع صلاحيات السلطة، على أمل تحسين شروط التفاوض على الأرض في المستقبل. كان يريد أن ينتزع من الإسرائيليين أكبر ما يمكن من سلطة... كانت الأرض هي الأولوية لدى الإسرائيليين. وهذا الفارق بيننا وبينهم، هم كانوا يعتبرون الأرض أولوية، فيما كانت الأرض عندنا واحدة من القضايا التي تتغلب عليها أحياناً السلطة". كان عرفات حسب عبدربه "يستهين بالخطر الاستيطاني وكان ينظر إليه نظرة غير جادة، وكان يضع هذا البند على جلسات مجلس الوزراء، لكن من باب رفع العتب، وليس من باب أنه بند يستحق المعالجة...". إذا كان ما يقوله عبدربه صحيحاً، فإنه يكشف خطأً استراتيجياً في أسلوب التفاوض الذي كان يعتمده قائد الثورة الفلسطينية، خاصة وأن الأرض هي المحور المركزي للصراع مع العدو الإسرائيلي. وهذا أمر مثير للاستغراب، ويفسر إلى حد كبير سبب فشل المفاوض الفلسطيني في موضوع بهذه الخطورة. ولعلنا نتذكر أن زعيماً إسرائيلياً مثل بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء الأسبق، كان دائماً ما يردد بأن توسيع الاستيطان لا يتعارض مع اتفاق أوسلو. تزداد الصورة سوءاً عندما يصل عبدربه في حديثه إلى مفاوضات كامب ديفيد في ديسمبر عام 2000، إذ يقول: "نحن لم تكن لدينا مقترحات مضادة. لم تكن لدينا دراسة مضادة أو بديل عن الاقتراح الإسرائيلي وخريطة أخرى واستعداد لتبادل أراض أم لا. لم يكن لدينا جواب مضاد...". هل هذا معقول؟ بعد أكثر من ست سنوات على قيام السلطة الفلسطينية، يذهب الوفد الفلسطيني إلى مفاوضات مصيرية عن الحل النهائي من دون أن تكون لديه مقترحات وخرائط خاصة به، تعكس موقفه وحقه في الأرض والدولة؟ بعبارة أخرى ذهب الفلسطينيون إلى كامب من دون تصور سياسي وقانوني للحل المنشود؟ ماذا كانت السلطة تفعل طوال أكثر من ست سنوات؟ هل كان كل ذلك مشكلة عرفات ومسؤوليته لوحده؟ لا شك أن حجم مسؤوليته يجب أن يتناسب مع حجم منصب القيادة الذي احتفظ به حتى وفاته. الأسوأ أن ما يقوله عبدربه عن عرفات ليس إلا رمز على واقع أوسع. مشكلة عرفات أنه كان محكوما بقيم النظام السياسي العربي. انشغاله بالسلطة كان طبيعياً. فالسلطة كانت أم القيم في هذا النظام العربي، وكانت المقياس الأهم لإثبات القدرة على القيادة والجدارة بها. حتى زملاء عرفات كانوا يعانون من وطأة الواقع ذاته، وإن على جانب ومستوى آخر. يتذكر عبدربه كيف أن القيادة الفلسطينية استكانت للحصار الذي ضربته حكومة شارون على الرئيس عرفات. لم يسمح الإسرائيليون لأحد من زملائه بزيارته إلا بعد شهر من محاصرة المقاطعة في رام الله بذلك الطوق المغلق. وفي أول زيارة قام بها عبدربه وآخرون للرئيس، ذهبوا في سيارة عسكرية إسرائيلية. وفي الوقت الذي يصف عبدربه عرفات بحب السلطة، وشغف التفرد بالقرار، وعدم إعطائه الأرض والاستيطان ما يستحقانه من اهتمام، يذكر أن عرفات كان متقشفاً، ولا يحب تمييزه عن الآخرين الذين يعملون معه، خاصة في أمور المأكل والمشرب. ورغم كل ما قاله، فإن عبدربه يعترف بأنه معجب بعرفات، ووقع في غرام منهجه العملي، أو البراغماتي، وتخلى عن خطه اليساري عندما كان في الجبهة الديمقراطية. صورة عرفات في حديث عبدربه تبدو سلبية عن قائد الثورة. ما مدى دقة هذه الصورة؟ ماذا يقول الآخرون ممن عرفوا عرفات وعملوا معه عن قرب؟ لكن ما يقوله عبدربه في هذه الأحاديث يعكس ذاكرة مرتبكة، بل حالة ارتباك فلسطينية لم تنفجر آثارها وتبعاتها إلا مؤخراً.