لقد صوتت أغلبية الناخبين الأميركيين لصالح باراك أوباما، تعلقاً بما قدمه من وعود تغيير على نطاق واسع. غير أن الأرجح هو أن تتكيف هذه الأغلبية الناخبة مع واقع إدارة جديدة، لا تتعدى كونها نسخة معدلة ومحسنة تحسيناً طفيفاً من إدارة كلينتون، لكونها تحتشد بالكثير جداً من ذات الأسماء والوجوه التي عملت سابقاً في إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون، وتتبنى كل سياساتها تقريباً. والقصد أن سياسات أوباما، قد استمدت من ذات المصادر الوسطية الديمقراطية التي اعتمدت عليها الإدارة المذكورة. ولذا لم يكن مستبعداً أن يكون بعض الناخبين قد فوجئوا لحظة الحديث عن تعيين أوباما للسيناتورة هيلاري كلينتون وزيرة خارجية لإدارته... وهو تعيين ليس له أي معنى من وجهة نظري الشخصية، لكونه لا يفعل شيئاً سوى تأكيد ما قيل آنفاً عن تطابق السياسات المرجح بين الإدارتين. ولكن ألا توجد ثمة اختلافات جوهرية بين رؤى الرئيس المنتخب أوباما وإدارة كلينتون فيما يتعلق بمسائل الحرب والسلام؟ ولماذا تعين على الناخبين الأميركيين بل العالم كله، تحمل عناء عام ونصف العام من السباق الماراثوني الطويل لانتخابات الحزب "الديمقراطي" التمهيدية، لتليه فترة طويلة أخرى من العناء والتطلع إلى نتائج السباق الرئاسي الحاسمة، طالما أن المسألة كلها سوف تنتهي إلى قلب الوجه الآخر لشخصيات حزبية تحمل ذات الأفكار والمفاهيم والمبادئ، وتشاطر بعضها بعضاً ذات السياسات داخل الحزب نفسه؟ ثم، أين هو التغيير الكاسح الذي وعد به أوباما الناخبين؟ فعند النظر إلى تصريحاته وخطبه التي ألقاها أثناء حملته الانتخابية عن التغيير، بالكاد يلمح المرء شيئاً محدداً ينوي القيام به عملياً لإحداث هذا التغيير الموعود الذي وعد به ناخبيه. فبقدر ما أكثر الرجل من الحديث عن التغيير، بقدر ما تفادى الخوض في وحل التفاصيل المعقدة والعصيبة المرتبطة به، وهو ما انتقد عليه طرحه السياسي حينها، على حد اعترافه هو نفسه. والحق أن الكثيرين من الذين صوتوا لصالح أوباما في المعركة الانتخابية الرئاسية الفاصلة -وأنا شخصياً منهم- إنما اتخذوا قرارهم الانتخابي هذا اعتماداً على ما رأوه فيه من مزايا وصفات، يتفوق بها كثيراً على الرئيس بوش، بل وعلى الكثير من منافسيه في الحملة الانتخابية لهذا العام، لعل من أهمها ذكاؤه الواضح وتوازنه ونضج شخصيته. ومما شد الناخبين إليه، أنه كان يخاطبهم بصفتهم أفراداً راشدين مثله، وأنداداً له. وهذا هو وجه الاختلاف الرئيسي بينه وبين منافسته الحزبية السابقة هيلاري كلينتون. ولاشك أن هذه الأخيرة تتمتع بقدر كبير من الذكاء، فضلاً عن خبرتها الطويلة في مجال العمل السياسي ودهاليزه الخفية، وهي تتسم مثله بقدر كبير من الطموح وحسن التقدير. وعلى رغم هذه المزايا جميعاً إلا أنه لم يقدر لها مطلقاً أن تضاهي منافسها أوباما في القدرة الخطابية الانتخابية -مع ملاحظة أنه ربما لا يقدر له مطلقاً أن يلقي خطابات مشابهة في المستقبل. ولمجرد التذكير، فقد دعا أوباما نفسه الناخبين إلى الهدوء وتقبل إصابتهم بخيبة الأمل فيه سلفاً. والمعضلة أن خيبة الأمل هذه ذات طابع عالمي. فبسبب الوعود والآمال الكبيرة التي أثارها انتخابه على نطاق عالمي، لاسيما بين شعوب الدول الأوروبية الحليفة لأميركا، فسيواجه أي إحياء لنهج "الكلينتونية" من قبل ثنائية أوباما- هيلاري الجديدة، بالاستهجان وخيبة الأمل لدى تلك الشعوب والأمم. ولا يعود تفسير ردة الفعل الداخلية والعالمية المتوقعة هذه، إلى أن إدارة كلينتون كانت بكل هذا القدر من السوء، بقدر ما تعود إلى الاضطراب الذي وسم تلك الإدارة وفقدانها للاتجاه في سياساتها الخارجية، إلى حد سهل على بوش وإدارته كثيراً دمج السياسات الخارجية لأميركا بحربه الدولية المعلنة على الإرهاب. ولإكمال هذا الدمج لم يكن بحاجة إلى شيء آخر عدا إضافة عناصر الخوف وتأجيج الهوس الأمني، إلى جانب نشر بعض الأكاذيب عن أسلحة الدمار الشامل وغيرها من الفزاعات التي روجت لها الإدارة. وقد انتهت تلك الحرب إلى انتهاك حقوق الإنسان والانزلاق إلى ممارسة التعذيب من قبل واشنطن، ما كان له وقع بالغ السوء على الأوروبيين بالذات، لأنهم لم يسبق لهم مطلقاً أن نظروا إلى الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها دولة يمكنها أن تقر وتبرر ممارسة التعذيب في قمة هرمها القيادي الحكومي، وصولاً إلى وزارتي العدل والدفاع، ومكتب استشاريي البيت الأبيض! وعلى أية حال، فقد وعد أوباما بوقف التعذيب ووضع حد للتجاوزات القانونية في اعتقال الأفراد المشتبهين في جرائم لها صلة بالعنف والإرهاب. أما فيما يتصل بإحراز النصر في الحرب الدائرة على الإرهاب، وضمنه إعادة بناء التحالف الأطلسي واستقطاب موارد أكبر للحرب، فقد دعا أوباما أثناء الخطاب الذي ألقاه في برلين، في إطار جولته الانتخابية الأوروبية، إلى تعاون ومساهمة أكبر من جانب الأوروبيين، حتى يصبح ممكناً الفوز بالحرب الأفغانية. ولكن ليست هذه بالفكرة المستحسنة على أي حال، طالما أن الاتجاه العام الذي تتبناه الحكومات الأوروبية هو الدفع نحو إيجاد حل إقليمي للنزاعات الدائرة في كل من أفغانستان والعراق. وربما يفاجأ معظم الأميركيين من وجود مخاوف وهواجس أوروبية حقيقية -عبر عنها مؤخراً وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنر أثناء حديث ألقاه في مؤسسة بروكنجز بواشنطن الأسبوع الماضي- من أن تقطع الولايات المتحدة الطريق أمام هذه الجهود، فتقضي بذلك على كل ما أنجز في مساعي الحل السلمي التفاوضي لإنهاء مختلف الأزمات. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيس"