ما نشهده حالياً في جمهورية الكونجو الديمقراطية من تجدد الصراع واتساع رقعته هو استمرار لحرب قديمة عمرت طويلاً في المنطقة وأزهقت الكثير من الأرواح ليتحول الصراع بذلك إلى أحد أطول الحروب وأكثرها شراسة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فحسب الإحصائيات التي تصدرها المنظمات الدولية تسببت الحرب في سقوط بين أربعة إلى خمسة ملايين قتيل سواء كنتيجة مباشرة للأعمال القتالية التي حصدت أرواح المدنيين الأبرياء، أو بسبب الأوضاع المتردية الناجمة عن استمرار الحرب مثل تفشي الأمراض الفتاكة وسوء التغذية وغيرها من الآفات المرتبطة بالحروب. وبعد فترة هدوء وجيزة توقفت فيها الحرب وانتعشت فيها آمال السلام، استُؤنف القتال مجدداً لتغرق الكونجو في دوامة أخرى من العنف في تجاهل شبه تامل من قبل الرأي العام الدولي ووسائل الإعلام العالمية، وفي ظل عجز دولي مريع عن وقف الحرب ووضع حد لمعاناة الأبرياء، وكأن أفريقيا أقل أهمية من باقي المناطق، أو لكأن الدم الأفريقي الذي يُسفح في الكونجو اليوم أرخص من دماء الشعوب الأخرى. والحقيقة أنه لسبر أغوار الصراع المندلع في الكونجو وتشابكاته العديدة لا بد من الاستعانة بالتاريخ والرجوع إلى مجازر الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا المجاورة عام 1994؛ فبعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس الرواندي "هابياريمانا" المنحدر من قومية "الهوتو"، انطلقت ميليشيات هذه الأخيرة في عملية قتل واسعة ضد "التوتسي"، تصاعدت وتيرتها للتحول إلى مجازر منظمة تهدف إلى استئصال "التوتسي"، تلك المجازر التي لم توفر حتى جماعات "الهوتو" المعتدلة المعارضة للتطرف وعمليات القتل. وهكذا وفي أقل من شهر قُتل أكثر من 800 ألف من التوتسي نتيجة العنف الممنهج الممارس ضدهم، في حين خرجت جماعة منهم إلى أوغندا المجاورة وشكلت ميليشيا بقيادة "بول كاجامي"، الذي دخل في حرب طويلة مع رواندا تمكن في النهاية من السيطرة على السلطة وإسقاط النظام، ثم الانتقام لـ"الهوتو". وخوفاً من عمليات الانتقام فر مئات الآلاف من "الهوتو" إلى ما كان يعرف وقتها بزائير التي كان يحكمها المارشال "موبوتو" بقبضة من حديد، وبالطبع كان من بين الذين هربوا إلى زائير جماعات من الهوتو تورطوا بشكل مباشر في المجازر ضد التوتسي، وآخرون توجسوا من انتقام يطالهم ويفني أبناءهم. وفي عام 1996، قامت رواندا في محاولة منها لوقف الهجمات التي ينفذها "الهوتو" عبر حدود زائير بمساعدة التمرد الداخلي في الكونجو بقيادة لوران كابيلا الذي تمكن من الاستيلاء على السلطة عام 1997 والإطاحة بالرئيس موبوتو وإخراجه من البلاد. لكن كابيلا الذي تلقى دعماً مهماً من جارته رواندا سيقلب لها ظهر المجن ويقطع صلاته مع حلفائه القدامى بسبب مطالبهم السياسية المتصاعدة وتدخلهم الدائم في الشؤون الداخلية للبلاد، وسيتوجه بدلاً من ذلك إلى أنجولا كحليف جديد يمده بالدعم السياسي والسلاح، كما سيعمد كابيلا على تغيير اسم البلاد من زائير إلى جمهورية الكونجو الديمقراطية. غير أن هذه التغييرات التي طالت السلطة في البلاد لم تساهم في تحسين الأوضاع المعيشية للسكان، وظلت الكونجو نموذجاً لما يمكن أن يسمى بالفضيحة الجيولوجية، إذ في الوقت الذي تزخر فيه البلاد بموارد هائلة تتوزع بين المعادن النفيسة التي تدخل في صناعة رقائق الكمبيوتر والهواتف النقالة وبين توافر النفط بكميات معقولة ظلت البلاد غارقة في الفقر واستحالت النعمة نقمة بعدما أضحت غنيمة يتقاتل في سبيل الحصول عليها الخصوم والأعداء. وهكذا لم تشهد البلاد على عهد موبوتو تطوراً في بنيتها التحتية، بل ذهبت المداخيل لحماية نظام الحكم وتثبيته، فضلاً عن تنافس الدول المجاورة للاستفادة من موارد الكونجو بعدما دخلت في فترة الفراغ السياسي عقب الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1997. وقد وصل التنافس بين البلدان المجاورة للكونجو على مواردها الطبيعية درجة من الشراسة إلى حد أن البعض أطلق عليها اسم "الحرب العالمية الأفريقية الأولى"، بحيث سعت كل دولة إلى وضع يديها على مقدرات البلاد واستغلال خيراتها سواء من خلال التحالف مع النظام في كينشاسا، أو التعاون مع خصومه ومقاتلته. لكن وفي أثناء ذلك، ظل المدنيون العزل الأكثر دفعاً للثمن، فعلاوة على ملايين القتلى بسبب الحرب، هناك لائحة طويلة من اللاجئين الذين أرغموا على مغادرة منازلهم، وفيما كانت الأطراف الكونجولية المتقاتلة توقع على اتفاق سلام برعاية جنوب أفريقيا في عام 2002 اغتيل لوران كابيلا في ظروف غامضة ليخلفه على رأس السلطة نجله جوزيف كابيلا. ورغم نشر الأمم المتحدة لأكبر قوة لها لحفظ السلام يصل قوامها إلى 17 ألف رجل للتأكد من تطبيق بنود الاتفاق الموقع بين الأطراف الكونجولية، فإن القتال سرعان ما تجدد على يد الجنرال "لوران نكوندا" المنتمي إلى "التوتسي" والمقرب من النظام في رواندا. وإذا كان "التوتسي" قد تعرضوا لمجازر رهيبة شهد العالم مدى هولها وفظاعتها، فلا بد من الإشارة أيضاً إلى أن قوات بول كاجامي المنحدر من "التوتسي" انخرطت هي الأخرى في أعمال قتل جماعية وانخرطت في مجازر معروفة، كما أن نظام كاجامي الحاكم حالياً في رواندا متهم بتورطه في محاولة اغتيار الرئيس الرواندي السابق، وهو الحادث الذي أوقد نار العنف والمجازر وأجج نارها. ولا ننسى أيضاً أن التوتسي باعتبارهم أقلية صغيرة، ما كان لهم استلام السلطة في رواندا دون الاستيلاء عليها باستخدام السلاح، ومازال نظام "كاجامي" يستخدم ورقة التعاطف الدولي مع محنة "التوتسي" وتوظيف ما تعرضوا له من مجازر لإقصاء "الهوتو" عن السلطة، رغم أنهم يشكلون الأغلبية. وفي هذا الإطار عمل "لوران كاجامي" على تغذية الصراع في الكونجو بين عامي 1997 و2002 وغطى على أعمال القتل التي استهدفت "الهوتو"، كما ساند استئناف القتال أملًا في الحصول على حصته من ثروة الكونجو. فهل يتمكن "كاجامي" من تحقيق أهدافه؟ الحقيقة أن أصواتاً عديدة بدأت تتصاعد لتطالب بعدم تبرير ما يقوم به "كاجامي" فقط بسبب ما عاناه "التوتسي" من مجازر، بل حتى حماة نظامه من الأميركيين باتوا قلقين من عودة القتال إلى الكونجو ودخول البلاد في مرحلة أخرى من الفوضى وعدم الاستقرار.