يتابع الإعلام السياسي والفكري الألماني كتاباته الترحيبية والنقدية حول الحدث الأميركي، الأخير الكبير، نجاح باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة، وفي هذا الوسط المتحرك مثل كثبان الرمل، تابعتُ محاضراتي وحلقاتي الدرسية، فتدفق حراك ملحوظ بين الباحثين والمستمعين. وبوضوح تبلور سؤال تبيّن أنه محطّ اهتمام من قبل الحضور، فهؤلاء يرون أنه يدخل في نسيج البحث في الأسئلة والتساؤلات، التي تمس العرب راهناً واستراتيجياً، بقدر ما تمس مصائر العالم أجمع. في هذا وذاك، كان السؤال يُفصح عن نفسه بالصيغة التالية: هل يدخل نجاح أوباما في خانة المصالح العربية، أم هو استمرار لما سبقه، على نحو أو آخر؟ رؤية فاحصة أولية لذلك السؤال تدعو إلى وضعه في سياق الحدث الكبير السابق عليه، وهو انفجار الأزمة المالية، التي اعتُبرت من قبل أوساط كثيرة أنها خطيرة على النظام الاقتصادي الأميركي، بل ربما كانت مقدمة لزعزعة هذا الأخير بوصفه تجسيداً مركّزاً للنظام العالمي الجديد (العولمي). وهذا يعني أننا أمام حدثين اثنين أتيا تعبيراً عن واقع جديد، هما الأزمة المالية الانفجارية، ونجاح أوباما في الانتخابات الرئاسية. وكي ندرك خطورة هذا الواقع في قلب النظام المذكور، نلفت النظر إلى ما صرح به في حوار خاص، الفيلسوف الألماني J.Habermas ، حيث قال: هذه هي نهاية الليبرالية الجديدة (جاء الحوار في صحيفة Die Zeit الأسبوعية بتاريخ 6 نوفمبر). في هذا السياق يكتب الإعلامي السياسي Von J. Jo ffe في الصحيفة المذكورة، مهلِّلاً متفائلاً (في العدد المذكور تواً) ما يلي: "لقد أنجز المهمة: فَلِلحْظة، يُسمح للعالم ثانية أن يأمل في أميركا، التي يمكن أن تتغلب على أحكامها المُسبقة البشعة، وكذلك على مخاوفها". ويتابع الإعلامي مذكِّراً بالبرنامج الانتخابي، الذي قدمه أوباما واحتوى على نقاط مهمة يمكن أن تُجيب عن مشكلات عظمى عالقة في الولايات المتحدة، منها: حماية المناخ، وتجديد الطاقة، وإيجاد نظام ضمان صحي عام ومن أجل الجميع، إضافة إلى فرض ضرائب على الأغنياء، مع التساؤل عن كيفية معالجة الرئيس الجديد بدءاً من العام 2009 لقضية ديون مستحقة تصل إلى بليون دولار، هذا إذا غضضنا النظر عن السياسات الخارجية، التي لم يخض فيها أوباما. وإذا كان بوش قد أراد التخفيف من قيمة أوروبا حيث تحدث عنها بوصفها "قد شاخت"، فإن الحديث الآن عن أميركا يقود- حسب بعض الكتاب- إلى مقارنتها في مرحلتها الآخذة في الانكفاء (وهي مرحلة بوش خصوصاً)، مع مرحلتها الجديدة "الطالعة" إلى المستقبل، وذلك بمثابتها مقارنة بين "أميركا القديمة" -وينتمي إليها "ماكين"، وبين "أميركا ما بعد الحداثة"- ويفتتح عصرها الآن أوباما. وفي إطار هذا كله، يضيف بعض آخر من الميزات التي يتمتع بها هذا الأخير، مثل انتمائه إلى العرق "غير الأبيض"، وبعض ميوله إلى "شيء من اليسار"، والنظر إليه بصفته الوريث الشرعي للمناضلين السود والملونين (مثل مارتن لوثر كنج)، بحيث جاء على موعد مع حلم تحرير العبيد، في أميركا خصوصاً. ولو شاء الباحث المدقق أن يضع أوباما في موقع ما، لكان ذلك أمراً معقداً، مع أنه - في تحالفاته الانتخابية- وصل إلى معظم الأطراف السياسية المتعلقة -جزئياً- بـ"الوسط اليميني". لكن ما لا يمكن تجاوزه حقاً، ربما يتمثل في أن أوباما "صدّع" أو بدأ بعملية تصديع "الليبرالية الجديدة المتوحشة"، وراح يفتح كوى على عوالم عاشت غالباً في إطار المهمّشين المذلّين المُفقرين. في هذا، نحن أميل إلى أنه كان صحيحاً ما قدمناه سابقاً حين ميّزنا معرفياً وكذلك سياسياً في دراستنا للنظام العالمي الجديد- العولمي، بين هذا النظام وبين أميركا. لقد كان تمييزنا النسبي هذا ضرورياً لصالح أميركا، حين أعلنَّا أن شعبها ليس متماهياً مع إدارته السياسية بالضرورة، بحيث ننظر إلى هذين الطرفين على أنهما واحد، وهذا يمثل مقولة سوسيوسياسية تقود إلى رفض القول بـ"غرب واحد موحّد"، كما فعل إدوارد سعيد، كما أن تمييزنا المذكور كان ضرورياً لصالح العرب، الذين راحوا يُحاصرون من قِبل أمثال فوكوياما وهنتنجتون ومجموعة من المثقفين العرب عبر الثنائية الزائفة: إما أن تندمجوا بالعولمة (ورآها بعض أولئك أمراً حاسماً بعجرها وبجرها) فتدْخلوا العصر، وإما أن ترفضوها، فيلفظكم التاريخ! مجيء أوباما يضع أمام الباحثين النهضويين التنويريين العرب مهمة البحث فيما قد يكون مفتاحاً إلى عالم جديد عبَّر عنه فوكوياما بعنوان كتابة له: عربة الأمل.