تعيش غزة وأهلها منذ يونيو2007 في ظل حالة حصار تفرضه السلطات الإسرائيلية عليها بعد الأحداث المشؤومة التي شهدها القطاع إبان الصدام المسلح بين "حماس" و"فتح"، وأيلولة كامل السلطة في القطاع للأولى. ومنذ الخامس من الشهر الجاري تم تشديد الحصار بإغلاق كل المعابر التي تربط غزة بالعالم الخارجي كعقاب إسرائيلي على إطلاق صواريخ على جنوب إسرائيل من قبل فصائل مقاومة فلسطينية عقب العملية العسكرية الإسرائيلية في القطاع، والتي قالت مصادر إسرائيلية رسمية إنها تمت لإحباط حفر نفق سوف يستخدم لترويع الجنود الإسرائيليين وخطفهم. ويترتب على الحصار المشدد بطبيعة الحال توقف كافة الإمدادات ذات الطابع الإنساني من الغذاء والدواء والوقود الذي يؤدي اختفاؤه إلى شلل كامل في شرايين الحياة اليومية. وبعيداً عن أسلوب العويل الذي يتبعه بعض وسائل الإعلام العربية في تصوير تداعيات الحصار يكفي أن نشير إلى الكلمات الرصينة التي نطقت بها المفوضة العليا لحقوق الإنسان نافي بيلاي: "تسبب الحصار في حرمان 1.5 مليون شخص من رجال ونساء وأطفال طوال شهور من حقوقهم الأساسية". وثمة أسئلة وقضايا ضرورية لابد من إثارتها في هذا السياق، وأول هذه الأسئلة عن شرعية فرض عقوبات على هذا المستوى من القسوة والخطورة على شعب بأكمله بسبب ما يفعله حكامه. بعبارة أخرى لو فرضنا أن "حماس" التي حازت على الأغلبية في الانتخابات التشريعية في فبراير2006 "تنظيم مارق"... هل يجوز أن يُعاقَبَ أهل القطاع كلهم بجريرتها؟ وهل يتصور البعض مثلاً أن الغزاويين سينتفضون ضد حكامهم من جراء تداعيات الحصار عليهم فتعود الأمور سيرتها الأولى وتفتح المعابر؟ ربما يحدث هذا، ولكن حدوثه شديد الصعوبة إن لم يكن لأن "حماس" تحوز تأييد قطاع كبير من أهل غزة حتى الآن فلأنها تمتلك من القوة ما يجعلها قادرة على الدفاع عن سلطتها في غزة وخاصة أن لها هناك قاعدة شعبية عريضة كما سبقت الإشارة. يضاف إلى هذا أن البعض يرى أن إسرائيل صاحبة مصلحة في الحفاظ على الانقسام الفلسطيني لأنه يمثل وضعاً أمثل لها في عملية التفاوض مع الفلسطينيين، ويتنبأ من ثم بأن الحصار سينتهي في الوقت المناسب، أي قبل الكارثة، وخاصة أن وقوعها ستكون له تداعياته السلبية الخطيرة التي تزيد صورة إسرائيل في المجتمع الدولي سوءاً، مما يصعب مهمة الدبلوماسية الإسرائيلية. لكن سؤالاً يبقى معلقاً، لا يثار أحياناً ويثار أحياناً أخرى، وعندما يثار قد تكون لغته صريحة أو غير صريحة: إلى متى يبقى العرب أسرى للإرادة الإسرائيلية في فتح المعابر وإغلاقها، وفي الضغط على غزة في الاتجاه الذي تريده هذه الإرادة؟ لا ينسى أحد بطبيعة الحال أن ثمة معبراً يربط غزة بالعالم الخارجي على الحدود بينها وبين مصر هو معبر رفح، وهو المنفذ البري الوحيد الذي يمثل رابطة مباشرة للفلسطينيين بمحيطهم العربي، ولو أن مصر فتحت المعبر لإمدادات الغذاء والدواء والوقود إلى قطاع غزة لانتهى الأمر، لكن السلطات المصرية فيما يبدو تريد لتصرفاتها أن تكون متصفة بالمشروعية الكاملة، أي متسقةً تماماً مع القانون، ومن المعروف أن ثمة اتفاقية للمعابر وقعت في مثل هذا الشهر منذ ثلاث سنوات (في 15/11/2005) تنظم تشغيل معبر رفح، ويتطلب هذا التشغيل مشاركة إسرائيل والسلطة الفلسطينية (طرفي الاتفاقية) بالإضافة إلى طرف ثالث مراقب عن الاتحاد الأوروبي وطرف رابع هو مصر التي يصل المعبر بين إقليمها وبين قطاع غزة. وبما أن إسرائيل لا تريد فتح المعبر والسلطة الفلسطينية منقسمة على نفسها بين غزة والقطاع والأوروبيين غائبون فإن السلطات المصرية تعتبر أن شروط تشغيل المعبر لم تعد متوفرة. وبغض النظر عن الموقفين الإسرائيلي والأوروبي فإن توفير الشرط الفلسطيني لتشغيل المعبر (سلطة فلسطينية واحدة) يبدو في الأمد القصير صعباً إن لم يكن مستحيلاً، وبالتالي فإن المبرر المصري لعدم تشغيل المعبر يبقى على حاله. والواقع أن هذا المنطق يحتاج منا نقاشاً واسعاً ومدققاً لعلنا نساعد السلطات المصرية على اتخاذ قرار لا يبقى قطاع غزة رهينة إنسانية دائمة بيد الإسرائيليين، وأول ما يجب أن يقال في هذا السياق إن قراءة نص اتفاقية المعابر سرعان ما تكشف أن الغرض منها هو تأمين إسرائيل وليس قتل أهل غزة. بعبارة أخرى فإن منطق الاتفاقية يبدو شديد الوضوح: ألا يدخل القطاع أو يخرج منه أحد أو شيء إلا بموافقة إسرائيل خشية أن تكون للحراك البشري أو حركة السلع عبر رفح تأثيرات سلبية على أمن إسرائيل. لكن الاتفاقية لا تتضمن من قريب أو بعيد ما يتعارض مع دخول الإمدادات الإنسانية الضرورية إلى غزة ناهيك عن أن يكون ذلك في ظروف مأساوية كالتي يعيشها أهل القطاع الآن، والدليل على ذلك أن إسرائيل على رغم فرضها الحصار سمحت يوم الاثنين الماضي بدخول 33 شاحنة إمدادات -عبر منفذ آخر بطبيعة الحال- صحيح أنها ليست كافية لكن المهم أنها تؤكد معنى أن الحصار لا يتعارض مع احترام الاحتياجات الإنسانية. بل إن السلطات المصرية نفسها تفتح معبر رفح بطريقة شبه منتظمة لعبور الحالات الإنسانية من الفلسطينيين أساساً من القطاع وإليه: المرضى للعلاج والطلبة للدراسة والعاملون في الخارج لقضاء إجازاتهم... وما إلى هذا. ألا تنطبق قاعدة "من باب أوْلى" على فتح المعبر لحالة إنسانية تتمثل في شعب مهدد بألا يجد قطرة الماء وكسرة الخبز وحبة الدواء؟ يزداد هذا المنطق قوة عندما نجد أن مصادر دولية رفيعة لا تخفى مكانتها المعنوية ولا يشك في احترامها للمشروعية القانونية تتخذ موقفاً حاسماً يتمثل في ضرورة رفع الحصار، فالأمين العام للأمم المتحدة يتصل برئيس الوزراء الإسرائيلي يوم الثلاثاء الماضي ويبلغه قلقه العميق إزاء تدهور الوضع الإنساني في غزة، والمفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة تدعو إلى رفع الحصار لخرقه القوانين الدولية، والناطق باسم وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم التابعة للأمم المتحدة يوجه نداءً إنسانياً للكافة بضرورة رفع الحصار، ويضيف قائلاً: "يجب عدم معاقبة الأطفال بحرمانهم من الحليب. لا أعلم عن أطفال يطلقون صواريخ أو حليبا للأطفال يستخدم في شحنات الصواريخ"، والاتحاد الأوروبي يشارك في الدعوة لرفع الحصار لخرقه القوانين الدولية، وتوني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق وممثل اللجنة الرباعية الدولية في الشرق الأوسط يدعو يوم الجمعة الماضي إلى: "إعادة فتح المعابر فوراً من أجل إفساح المجال أمام نقل منتظم للمواد الإنسانية الضرورية إلى غزة...". أفبعد هذا كله يمكن القول إن السماح بدخول هذه الإمدادات عبر معبر رفح من الجانب المصري عمل يتسم باللامشروعية أو يتناقض مع صحيح القانون الدولي؟ ومن الممكن التفكير في صيغة أقوى لإنهاء الحصار بفتح معبر رفح من الجانب المصري للإمدادات الإنسانية تتمثل في قرار عربي جماعي يدعو إلى ذلك، وهنا لا يكون القرار المصري مستنداً إلى تأييد مصري شعبي لا لبس فيه فحسب وإنما أيضاً إلى شرعية عربية غلابة بالإضافة إلى ذلك. وعلى أية حال، وأياً كانت الصيغة التي سيخرج بها هذا القرار، فإن التفكير في حل مصري خاصة وعربي عامة لأزمة الحصار الخانق على أهلنا في غزة مطلوب بإلحاح وبمنتهى السرعة حتى لا نبكي قريباً على قطاع غزة كما بكينا كثيراً من قبل على ما ضيعناه بسبب غياب الرؤية وجمود الفكر وبطء الحركة.