في انتخابات داخلية حامية ومثيرة، أعطت غالبية منتسبي الحزب الاشتراكي الفرنسي أصواتها لاختيار "مارتين أوبري" في منصب السكرتير الأول للحزب، لتصبح أول سيدة تتولى إدارته، بعد ما تعاقب على سدته قادة تاريخيون بارزون من أمثال جان جوريس وليون بلوم وفرانسوا ميتران. وقد تمكنت أوبري، خلال جولة الإعادة، يوم الجمعة الفائت، من حسم المنافسة لصالحها ضد مرشحة الرئاسة السابقة سيجولين رويال، إذ حصلت على 50.02% من أصوات الأعضاء المقترعين، مقابل 49.98% لرويال، وذلك بفارق 42 صوتاً فقط، فأعلنت الأخيرة اعتراضها على نزاهة الاقتراع وطالبت بإعادته... لتتعمق انقسامات الحزب وجروحه التي ازدادت خلال مؤتمره في "ريمس"، الأسبوع الماضي، في تطور يضع أحد أعرق الأحزاب الفرنسية على عتبة مضطربة من تاريخه، ويشرع أبواب الأسئلة حول ماضي أوبري وسجلها السياسي وسيرتها الحزبية. تعود علاقة مارتين أوبري بالحزب الاشتراكي إلى أكثر من 34 عاماً، فقد انضمت إلى عضويته في عام 1974 وباتت أحد نشطائه البارزين، وعضواً في عدد من لجانه وهيئاته، وقد تدرجت في سلمه إلى أن أصبحت عضواً في المكتب السياسي عام 1997، وكانت ناطقاً باسم حملة المرشح الاشتراكي ليونل جوسبين في انتخابات الرئاسة عام 1997، كما أصبحت أميناً عاماً مساعداً في عام 2000، وتم تكليفها في عام 2004 بإعداد مشروع سياسي يحدد رؤية الحزب لمستقبل فرنسا. لكن حتى قبل أن تنضم مارتين رسمياً لعضوية الحرب الاشتراكي، فهي ابنة الاشتراكي الفرنسي المعروف جاك دلور، وزير المالية في عهد الرئيس فرانسوا ميتران، ورئيس الموضية الأوروبية الأسبق. ولدت مارتين أوبري، واسمها الحقيقي "مارتين دلور"، في باريس عام 1950، وأنهت تعليمها الثانوي في مدرسة "بول فاليري"، حيث التحقت بمعهد الدراسات السياسية لتتخرج منه عام 1972، ولتواصل دراستها في المدرسة الوطنية للإدارة حتى عام 1975، عندما التحقت بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية وتقلبت فيها بين عدة وظائف، ثم أصبحت أستاذاً محاضراً في المدرسة الوطنية للإدارة. ولعل أوبري عرفت كيف توائم بين حياتها المهنية وحياتها الحزبية، فقادتاها معاً إلى تقلد حقيبة العمل والشؤون الاجتماعية، عام 1991، في حكومة الاشتراكية "أديث كريسون"، وبعد إقالة هذه الأخيرة في العام التالي، احتفظت أوبري بالحقيبة نفسها ضمن حكومة بيير بيريغوفواي. لكن بعد فوز اليمين بالانتخابات التشريعية لعام 1993، خرجت أوبري من الحكومة، ثم عادت عام 1997، عقب فوز اليسار، لتتقلد نفس الوزارة في حكومة جوسبين، وتمكنت من إنجاز الأهداف الأساسية للحكومة في المجال الاجتماعي؛ لاسيما مكافحة البطالة وزيادة فرص العمل، وارتبط اسمها بالقانون الذي خفض ساعات العمل من 39 ساعة إلى 35 ساعة في الأسبوع، والذي ووجه برفض من جانب اليمين وهيئات أرباب العمل، لكنه رفع فرص التشغيل الجديدة من 300 ألف وظيفة إلى 450 ألف وظيفة سنوياً. ويبدو أن الشغل الأساسي لأوبري لم يكن الوزارة أو المؤسسة الحكومية بشكل عام؛ فعقب خروجها من الوزارة للمرة الأولى عام 1993، أسست "هيئة الكفاح ضد التهميش"، وهي هيئة مدنية تضم شبكة من المؤسسات التي تعنى بتأهيل ودمج المهمشين في المجتمع. كما استقالت من حكومة جوسبين، في أكتوبر 2000، لتدخل سباق الانتخابات البلدية في "ليل"، وهو المجال الثاني الذي استحوذ على اهتمامها بشكل كامل تقريباً. فعقب معركة انتخابية حامية، فازت أوبري بمنصب عمدة المدينة، ونائب رئيس المجموعة الحضرية لـ"المقاطعة الشمالية" التي تضم 85 بلدية وعاصمتها "ليل" نفسها. وتولت أوبري ملف التنمية الاقتصادية في المجموعة، وحققت إصلاحات كبيرة في المدينة وضواحيها، لاسيما في مجال التنمية الاقتصادية والعمرانية، كما سجل القطاع السياحي في عهدها نمواً كبيراً، ونالت الرياضة والثقافة دفعاً غير مسبوق... مما أهلها للفوز بالشوط الثاني من الانتخابات البلدية في مارس الماضي، في مواجهة مرشح حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية" الحاكم، اعتماداً على التحالف مع محور واسع من عمد بلديات المقاطعة. وتعود علاقة أوبري بـ"ليل" إلى عام 1995، حين عيّنها عمدة المدينة "بيير موري" نائبة أولى له، فحينئذ بدأت ترسخ دورها السياسي والأهلي هناك، وأظهرت تعلقاً كبيراً بالمدينة وسكانها. وبعد طلاقها من "كسافييه أوبري" عام 2004، تزوجت مارتين من "جان لويس بروشين"، وهو محام من "ليل". ويتضح من مشوارها في "المقاطعة الشمالية"، أن مارتين أوبري كانت على صواب حين رفضت طلب حزبها المشاركة كمرشحة في الانتخابات التشريعية لعام 2007، وهي الانتخابات التي مني فيها الحزب بهزيمة قاسية، بعد أسابيع قليلة على هزيمته المدوية في انتخابات الرئاسة التي خاضها وراء مرشحته رويال سيجولين. والآن يوشك الحزب على دخول حالة من "الحرب الأهلية"، بعد أن فشل خلال مؤتمره السادس والعشرين، والمنعقد بـ"ريمس"، في تحديد خط سياسي لعمله خلال الفترة القادمة، وبعد "المؤتمر الكارثي"، لم يبق أمام ناشطي الحزب الاشتراكي، ويبلغ عددهم نحو 230 ألف ناشط، إلا اختيار زعيم جديد للحزب بأنفسهم، وهو ما أدى إلى فتح الصراع بين أربعة مرشحين في الجولة الأولى، يوم الخميس الفائت، وإذ لم يحسمها أحد منهم فقد انحصرت "حرب" الجولة الثانية بين السيدتين؛ سيجولين وأوبري. وفيما حازت أوبري على دعم "فيلة" الحزب، بمن فيهم هولاند "مطلّق" رويال و"والد" أطفالها، فإن الحزب الاشتراكي بدا عاجزاً وممزقاً وفي مشهد محزن لا يسر غير خصومه من اليمين... وبالتأكيد فإن أوبري لم تكن لتفرح بفوزها وسط "حرب" مأساوية من هذا النوع قد تقضي كلياً على مستقبل اليسار في فرنسا، وعلى رأسه الحزب الاشتراكي نفسه!