عنَّ لي في الأسبوع المنصرم أن أعيد ترتيب مكتبي، إذ وجدتُ أن أوراقاً كثيرة وملفات عديدة تملأ أدراج المنضدة التي أكتب عليها والأدراج التي علي يميني ويساري ومن خلفي! مضت على آخر مراجعة للبعض من تلك الملفات والأظرف الكبيرة سنوات عديدة، وفي كل سنة كان ما يُضاف على القديم أكثر كثيراً مما ينقص ويتم فحص جديته وفائدته. هالني ما وجدتُ بعد عناء تفقد تلك الرزم من الأوراق في مكتبي: وقعت بين يدي مراسلات مع بعضهم، ثبت لي بعد التدقيق بمحتواها الكم الهائل من الظلم الذي ألصقناه بهم، وزاد من سوء الأمر أننا لم نعتذر لهم عن ذاك الحيف البيِّن الذي حاق بمن ألصقنا بذواتهم ذاك الكمّ الكبير من الشبهات والادعاءات؛ لم تكن تبرئة هؤلاء تحتاج لمراجعة أرشيفي، فالأمر قد اتضح منذ زمن طويل، لكن ما أحزنني أنني أعدتُ لذاكرتي تلك السقطات، وعاد معها تمنُّعي واستكباري عن تقديم الاعتذار وطلب الصفح لمن يستحق بالفعل هذا! كذلك وجدتُ في منسياتي الورقية ما يناقض الحالة الأولى: مستندات تبرئ ساحة كاتب هذه السـطور من بعض المواقف ومعها انتظاري الطويل حتى الآن لاعتذارٍ لن يأتي -حسب الظن الغالب- على رغم أن المكابر قد عرف -بالتأكيد- خطأه وظنونه التي بددتها رياح الحقيقة والواقع المخالف. في تلك المخلفات عثرتُ على ما يُثبت مدى نزقي وإسرافي غير المبرر في أيامٍ خوالٍ، وضعتُ قائمة بالأشياء الحقيقية التي كان من الضروري الصرف عليها.. أشياء منتجة.. أو تسديد لقروض ومستحقات.. أو ادخار لأزمة قد تمر من حين لآخر، الذي تبين لي أن 70% مما أخرجته كان لا لزوم له على الإطلاق ويمكن تأجيله أو حتى إلغاؤه دون أي تأثير عليَّ، وعلى سبيل المثال: أشار أرشيفي إلى أنني أزهقتُ مالي القديم والذي لم أعد أملكه، وبنسبة تصل إلى 40% على اقتناء كماليات ومظهريات لا أمتلك منها شيئاً الآن، مع أن سنوات قليلة فقط مضت على اندفاعي الشرائي لتلك الأوهام، 20% صُرفت على ولائم كان مصير كميات طعامها الأكبر مكبات النفايات أو جيوب أصحاب الفنادق والمطاعم، والأمر الأسوأ أنني نُكبتُ -بصداقة- من أردت إكرامه ومشاركته لي في.. العيش والملح. 10% الباقية خصصتها -سفهاً- في سفريات عُدتُ منها مهموماً مطالَِباً، بدل أن تكون وقوداً لنشاط وتجدد أحتاج له! ... في أرشيفي وجدتُ صوراً لأصدقاء خُلص، باعدت بيني وبينهم -للأسف- تصاريف الحياة التي كان يمكن التغلب عليها إكراماً لروابط الأخوة الإنسانية والمحبة القديمة؛ أظهرت صور أخرى قائمة من الراحلين عن دنيانا الفانية، والذين حسبنا أن جروح النفس قد اندملت بعد فترات من تراكم مستحدثات هذه الدنيا وكربها.. لولا أن أعادت تلك اللقطات الزفرات والنشيج القديم وكأنهم قد رحلوا بالأمس القريب. لم تخلُ أوراقي القديمة من الحِكم والموعظة، فما حسبته شراً مستطيراً بالأمس حسب ما خطه يراعي وهو يصف وقائع أحداث الزمان الماضي، تحول خيراً كثيراً ونتاجاً مُثمراً، وما قد حسبتُ -وقتها- أن نهايات العالم بالنسبة لي قد حان أوانها عند وقوع المصاب، استمال لوجه آخر مُشرق؛ في نفس الوقت أظهرت لي ملفاتي القديمة كم كنت فرحاً بخبر وبشرى حسبت بعدها أن الدنيا قد أقبلت عليَّ بوجهها البالغ الحسن، وما هي إلا فترة من وقت تمنيت بعدها أنني لم أسمع بتلك البشائر التي هي في حقيقتها نُذر لشر مستطير. السذاجة بعينها هي في مكاتبات تمت بيني وبين آخرين، تعالت فيها خصومتنا الورقية التي تحول البعض منها إلى قطع في العلاقات البينية مع الجانب المقابل من الخصومة، وإذ بي أستيقظ الآن على حقيقة ألا سبب وجيه لتلك العشرات من الأوراق المحملة بالغضب والتوتر وسوء الفهم، لقد ذهبت تلك الاشتباكات -التي خلت من التروِّي والحِكمة- أدراج الرياح وبقي ما بيني وبين من اعتبرته خصمي الأهم، صداقة لا هي شديدة المودة ولا المقطوعة، لم يتبين -على الأرجح- لا هو ولا أنا سبب المناطحات ولا سبب توقفها! الغبار المتراكم على ملفاتي القديمة أزال كميات من حب الذات والأنانية التي سيطرت عليَّ في وقت من الأوقات، وعلى تقديم المهم على الأهم والخاص على العام، أثبتت لي مدوناتي القديمة كم كنت أزيح رأي أريب ذي ثقة بحجة أنني لم أستحسن تركيبات شخصه وأسلوبه ولم تتفاعل كيمياء روحي بروحه؛ أما من كنت آخذ بمشورته وأعمل بنصيحته فقط لأنني أميل له وأقع تحت تأثير شخصيته وأساليب أحاديثه الجذابة، فإنني أتمنى الآن أنَّ بيني وبينه بيداً وراءها بيدُ! عجبتُ لحالي وأنا أُقلِّب أوراقي العتيقة، لأنني تجرأتُ في وقت ما من الماضي أن أحذف الحقائق وأضع بدلاً منها ما يروق لي من أسطر مُشكلة من مادة غلبَ عليها الوهم والتردد والزائف من الوقائع، لأخـرج هذا المزيج على شكل يرضي الغير ويُكبر من شأني، بدلاً من إرضاء الضمير الذي لا ضرر من إعطائه المسكنات وحتى المنومات عند الحاجة! ارجعوا -أعزائي القراء- إلى أوراقكم المنسية وأرشيفكم القديم وستجدون ما وجدتُ.. ما لم تعملوا بالحِكمة القديمة: أن تنسى وتبتسم خيرٌ من أن تتذكر وتحزن!