غمر الكاتب فهمي هويدي، في ورقته بعمان الأردن عام 1998، إحساس عريض بالتفاؤل لما حققه التيار الديني والإسلام السياسي وربما ما حققه بخاصة "الإخوان المسلمون" في مصر، من مكاسب. وأدرج في ورقته المذكورة ثمانية انجازات حققها التيار، عدَّدناها في المقال السابق، وناقشنا بعضها، وها نحن نواصل! الأستاذ هويدي في تحليله للدور الذي لعبه التيار الديني في مصر، لا ينظر إلا إلى مكاسب التيار، ولا يلتفت إلى الآثار السلبية والمدمرة التي تركها تنامي هذا التيار على مسيرة المجتمع المصري والمجتمعات العربية والإسلامية على امتداد القرن العشرين ولا يزال، وهي آثار بحاجة إلى دراسات منفصلة لا يتسع المجال لها هنا، وقد أشرنا إلى بعض هذه السلبيات في مقالات كثيرة سابقة. عرضنا في المقال السابق ما يثبت مخاطر "الأخوان المسلمين" والتيار الديني علي الديمقراطية، لكن من الواضح أن موقف الكاتب غير متبلور في أصول وتجليات هذه المسألة، وفؤاده منقسم بين الديمقراطية والشورى بنسب غامضة. فهو يقلل مخاطر انحراف الشورى إنْ غلب على الجمهور توجه عصري ديمقراطي، فيحاول "شورنة" الفكر الديمقراطي الليبرالي برمته، ويعود لطمأنة الإسلاميين إنْ تحدث إليهم مشيراً إلى أن الديمقراطية ليست سوى نسخة عصرية من الشورى. ويعلم الأستاذ هويدي بلا شك، أن الديمقراطية ليست فقط حرية الانتخابات وتعدد الأحزاب، وأن الديمقراطية امتداد للحداثة وللتراث الدستوري الغربي، والشورى ليست الديمقراطية، بل حولها جدل واسع في صفوف الجماعات الإسلامية، وبين السُنة والشيعة، وهو جدل يعكس خلافات معروفة حول أسسها وحدودها وأعضاء مجلسها ومدى إلزامية رأي هؤلاء الأعضاء للخليفة! والديمقراطية المعاصرة تعتمد على نصوص وتجارب وكتابات مصدرها أوروبا وأميركا وآسيا، وعلى مبادئ حقوق الإنسان، وتساوي بين المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي والهندوسي والبهائي، وبين المؤمن والمشكك والملحد واللاأدري، كما نرى في الهند مثلاً، وفي الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وتسمح بحرية الدين والعقيدة، وتجعل هذه الحرية من الحريات الفردية وتفتح أبواب التشريع واقتراح القوانين وتجديد وتغيير كل القوانين والتشريعات. كما لا تنص دساتيرها على دين معين للدولة، إذ تقوم الديمقراطية في الأغلب الأعم على استقلال مداري الدين والدولة، ولا تشترط بالضرورة ديناً لرئيس الدولة ووزرائها، وقد يتولى الرئاسة فيها رئيس مسلم على أغلبية هندوسية كما في الهند. وتتميز الأنظمة الديمقراطية بحرية فكرية وإعلامية واسعة، وبحقوق تأليف ونقاش ونشر لكل القضايا بما في ذلك ما يتعلق منها بالمسائل "الحساسة" في اللغة والتاريخ والدين وتراث الأمة. وقس على كل ما ذكرنا قضايا وجوانب أخرى لا يتسع المجال لذكرها. فهل يتسع نظام الشورى الإسلامي لكل هذا؟ وهل تتفق الشورى والديمقراطية في كل هذه الأمور؟ ونعود إلى نهج الأستاذ هويدي في الكتابة والتفكير، وبخاصة في مجال محو الفوارق بين فكر الإسلاميين ومعارضيهم، وبين مصطلحات الأحزاب الإسلامية والأحزاب الأخرى، فنراه مولعاً في الغالب بتمويه الفوارق بين ما يريده الأخوان في مصر وجماعة أردوغان في تركيا وتيار ولاية الفقيه في إيران. وهذا من حق الكاتب ومن الملامح المؤكدة في تجربته الفكرية، فدفعه حماسه إلى هذا النهج التوفيقي والتركيبي والانتقائي، كما يوصف هذا النمط عادة، ولكنه اندفاع يأتي للأسف على حساب التعمق والموضوعية، وعدم تطبيق مناهج البحث العلمية على أهداف واستراتيجيات الجماعات الإسلامية. لكن هل نقاط الاعتدال التي تحظى عادة بالإشارة والإشادة في كتابات أ. هويدي وكتاب آخرين، مؤصلة ومحررة فقهياً، أم أنها مجرد آراء يلتزم بها بعض مثقفي مصر المتدينين ويعارضها آخرون، ويتبناها "أخوان مصر" ولا يعيرها "أخوان الكويت" اهتماماً، ويتحمس لها "الأخوان" ويعارضها كل المعارضة السلف وحزب "التحرير"؟ الأستاذ هويدي قد عايش في العالم العربي والإسلامي والعالم الثالث تجارب عقائدية وثورية من كل لون، تشبه تجارب الإسلاميين. وهو يعلم جيداً كم هو سهل ومتوقع أن تنزلق الجماعات الإسلامية، في الظروف الثورية الشعبوية والحماس الديني، إلى التطرف والفوضى وصراع مراكز القوى، فلماذا لا يكتب على الاطلاق شيئاً في هذا المجال؟ ولا ينبغي للأستاذ هويدي أو غيره أن يرى وصول الإسلاميين لسدة الحكم ليدرس تجربتهم، بل إن في كتاباتهم الحالية والسابقة وفي تصريحاتهم وتجاربهم في السودان وغيرها، والتي بالمناسبة تبناها الأخوان المسلمون في مصر، ما يغني عن ذلك. ونعود مرة أخرى إلى بعض ما ورد في "النقاط الثماني" التي حددها الأستاذ هويدي كمعالم حداثة وتطور في موقف الإسلاميين بمصر، ومنها في البند الأول، إشارته إلى إيمان الإسلاميين بـ"فقه التغيير السلمي". ورغم أن هذه الملاحظة تصدق إلى حد ما في موقف الأخوان داخل بلدانهم، حيث ينبذون العنف، مؤقتاً في الواقع، إلا أنهم سرعان ما يتعاطفون مع أي "انقلاب عسكري" في أي دولة عربية أو إسلامية، أو في صفوف الأقليات الإسلامية خارج هذه الدول! فأي انقلاب أو ثورة أو تمرد إسلامي، بل وحتى نظام كنظام "طالبان"، أفضل في رأي الأخوان المسلمين وعموم الإسلاميين من أفضل نظام علماني أو ليبرالي أو وطني أو أي نظام كان! وهم بهذا يكررون، كما هو واضح، تجارب الحركة الشيوعية العالمية، عندما كانت تعتبر أي تحرك أو انقلاب أو ثورة، بل وأي عملية تأميم أو حتى طرد سفراء بعض الدول الغربية.. "خطوة تقدمية" في مسيرة التحرر الوطني الديمقراطي! وهكذا، فإن إيمان الأخوان بـ"التغيير السلمي" سطحي وزائف، لا يتجاوز الحرص على حماية النفس من "الأخطار السياسية" داخل البلاد! ولو كانت جماعة الأخوان المصرية وفروعها العربية قد نضجت في مجال دراسة تجارب العالم العربي والعالم الثالث، وتعمقت في فهم الديمقراطية وتطور المجتمع، بل لو درست بعض كتاباتها وتصريحاتها الصحفية في العديد من المقابلات مع قياداتها، وأوراق "النقد الذاتي"، لما جرت بكل حماس خلف كل تجربة راديكالية باسم الإسلام! ولو امتلكت حرية أوسع للحركة داخل مصر والعالم العربي، فلربما لم تتذكر مبادئ فقه التغيير السلمي.. إلا في المناسبات والأعياد الرسمية! والآن، كيف ينظر الأستاذ هويدي لظاهرة "الإحياء الإسلامي"؟ إنه، كما قرأنا في المقال السابق، لا يعتبرها نتيجة لأي أزمة اقتصادية ولا ردة فعل لأي هزيمة، بل يعتبرها "بصدد صحوة شاملة للأمة، تمثل تطوراً متقدماً في مسيرة تحررها، الذي بدأ تحرراً من الاحتلال العسكري والتبعية الاقتصادية، وانتهى سعياً إلى التحرر من التبعية الحضارية والثقافية". ونقول رداً: أليس في هذا التقييم للتيار الديني والإسلام السياسي الكثير من التعميم والتسرع وتجاهل الحقائق السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والقانونية...إلخ؟ وقد نتساءل مثلاً: ما هي ملامح التحرر الثقافي والحضاري التي جلبها لنا الإسلاميون؟ هل هي مجرد هذا الالتفاف الشعبوي العاطفي الغيبي حول الأحزاب الإسلامية ومنظماتها وجمعياتها وخدماتها وشعاراتها؟ هل هي في تكاثر ظهور الجماعات والفضائيات والمواقع الإلكترونية الإسلامية، كما نراها اليوم؟ وما هي مقاييس الصحوة الواقعية في مختلف مجالات الحياة، والتي يمكن لها أن تنقل العالم العربي أو الإسلامي من واقعهما الحالي، حيث طغيان التخلف والاستبداد والبؤس الاقتصادي والجهل والأمية والمرض، إلى "التحرر من التبعية الحضارية والثقافية"؟ هل يلمس هويدي جوانب إبداع فكرية وثقافية وفنية وسياسية وعلمية في جماعات الإسلام السياسي وفي الأخوان المسلمين والسلف و"حزب الله" والجماعات الإسلامية الباكستانية، مما يبشر حقاً بصحوة شاملة ونهضة حضارية تليق باصطلاح "الإحياء"؟