ما سُرَّ بعضُ الإخوان في إيران وتركيا وسوريا من مبادرتَي الملك عبدالله بن عبدالعزيز لحوار الأديان والثقافات، وللسلام الشامل في المنطقة. وما استطاع الإخوة في سوريا أن يكونوا صريحين ومباشرين؛ لذا فقد طلبوا إلى آخرين في وسائل الإعلام التعبير عن توجهاتهم في لبنان والأردنّ وحتّى مصر. والواقع أنهم لا يستطيعون أن يقولوا شيئاً محدَّداً لا عن حوار الأديان ولا عن السلام أو بعبارةٍ أُخرى إنّ سلوكَهُم في المسألتين لا يُساعِدُهُم على انتقاد الآخرين لا في هذا ولا في ذاك. أمّا بالنسبة للملّف الإسلامي؛ فإنّ دور سوريا تضاءَل أيام الرئيسين حافظ وبشار الأسد بحجة أنها دولة علمانية، وقد تقرّبوا بذلك وما يزالون إلى الأميركيين وإلى غيرهم. وإذا كان حماسُ الأميركيين لعلمانيتهم قد خَفَّ بعد استخدامهم لعناصر أُصولية ضد العراق وضد الأردنّ وضدّ لبنان؛ فإنّ حماس الإسرائيليين لتنويرية النظام بسوريا ما تراجع. وكل يوم تقول الصحف الإسرائيلية إنّ دعمَ بقاء النظام السوري ضروري، لأنّ البديلَ قد يكون "الإخوان المسلمين" بسبب شعبيتهم البارزة! ثم إنّ النظام السوريَّ لا يستطيعُ أن ينتقد المبادرة العربية للسلام، لأنه وافق عليها في عـدة مؤتمراتٍ للقمة العربية، لكنْ أيضاً لأنه دخل في مفاوضاتٍ منـفردةٍ -بواسطة تركيا- مع إسرائيل؛ رغم اتفاق العرب على فشل أو قصور السلامات المنفردة السابقة. ثم إنّ النظامَ السوريَّ الذي تحدّث طويلاً عن المقاومة، لا يريد منذ أكثر من عامٍ أن يعرفَ عنها شيئاً خارجَ لبنان! بل ولا يُهمُّهُ في لبنان غير القدرة على استخدام الفلسطينيين المسلَّحين لإزعاج السلطة اللبنانية، كما حدث خلال السنوات الأربع الماضية. ولهذه الأسباب كلّها فقد تُرك أمر الهجوم على المبادرتين إلى آخرين. وتتلخَّصُ بأمور منها: أنه في حوار الأديان هناك نوعٌ من التسوية بين اليهود والمسيحيين، بحيث يؤدّي ذلك إلى استسهال المصالحة السياسية مع اليهود فيما بعد. ومنها أيضاً أنّ المبادرة العربية للسلام تتجاهلُ حقيقةَ أنّ التحرير لا يكونُ إلاّ بالقوة. أما وقد عرفْنا العلَلَ -السورية، فلندعْها للحُجَج الأكثر جدية، أو التي تتضمنُ دعوى المشروع. وبدءًا بإيران فإنها مُعارضةٌ لأيِّ سلامٍ مع إسرائيل، وهي تدعمُ "حماس" وتنظيم "الجهاد" و"حزب الله" على هذا الأساس. لكنْ هل تملكُ إيران الحقَّ والأهلية والقُدُرات من أجل مشروعٍ للحلّ بالحُسنى أو بالقوة؟ بالقطْع لا. ولذا لا عِلَّةَ للدعاوى الإيرانية (بل والإسهامات الإيرانية!) في الملف الفلسطيني إلاّ الاستقواء بحجة الضعْف العربي، وهذا تُجاه الجمهور العربي. أّما تُجاه القوى الإقليمية الأُخرى والدولية، فالمقصود إظهار الشراكة في سائر الملفّات الشرق أَوسطية، مع اقتران ذلك بالاستعداد للتفاوُض، كما تفاوضوا مع الولايات المتحدة بشأن العراق، وتوصلوا إلى مُهادنة وليس إلى اتّفاق. ثم إنه ليس مسلَّماً لإيران حتى بأن يكونَ لها مشروعٌ يتعلقٌ بفلسطين. وهم يعرفون ذلك، ولذا يتقدمون بإسهاماتهم من خلال تنظيمات عربية مثل "حماس" و"حزب الله". ويختلفُ الأَمْرُ في حوار الأديان. فإيرانُ دولةٌ إسلاميةٌ كبرى، ولها وجهةُ نَظَرها في العلاقات الإسلامية مع الأديان الأُخرى. وهي مُشارِكةٌ في هيئات ومؤسَّسات إسلامية سبق لها أن خاضت حوارات مع البروتستانت والكاثوليك والأرثوذكس، ومن خلال مجلس الكنائس العالمي، كما من خلال الفاتيكان، والمؤسسات الفرعية الأُخرى. وإضافةً لذلك؛ فإنّ العلماءَ الإيرانيين ذوي العلاقات الحَسَنة بالنظام، سبق لهم أن ذهبوا للفاتيكان مُنفردين، دون أن يأْخُذَ أحدٌ عليهم شيئاً. وفيما يتعلق بمؤتمر مكة، حضر علماء شيعة إيرانيون وعراقيون، كما حضر إيرانيون إلى مؤتمر مدريد. وليس هناك خلافٌ في الأساسيات تُجاه الأديان والثقافات؛ بل إنّ بعضَ علماء إيران أكثر انفتاحا ًوالتزاماً بالحوار من العلماء العرب. لكنّ المشكلة مع الإيرانيين في السنوات الماضية تتعلقُ بالدعاوى والطموحات، أكثر مما تتعلَّقُ بالاختلافات المنهجية أو الإدارية. فهم يطمحون إلى أن يُسيطروا على المرجعية فيما يتصل بالشأن الإسلاميّ العامّ. وقد بدأوا هذا الأمر منذ أصدر الإمام الخميني فتواه ضد سلمان رشدي عام 1987. لكنْ رغم حرصهم الشديد على "المرجعية" وأن لا يقعَ شيء خارجَهم مما له علاقةٌ بالإسلام؛ فإنهم ما قالوا كلمةً واحدةً في العَلَن ضدّ المفاوضات السورية مع إسرائيل -بينما هم ينغِّمون الآن بحجة أنّ الحوار يمكن بسبب شموليته أن يضمَّ اليهود الإسرائيليين، وهذا نوعٌ من التطبيع التدريجي! واليهوديةُ ما كانت هي المشكلة مع الصهاينة، كما أنّ الاعترافَ بها لا علاقةَ له بالتطبيع مع الكيان الصهيوني. ولسنا بحاجة إلى هذه الحيلة أو تلك للتطبيع؛ بل إنّ المبادرة العربية للسلام تقول بالسلام الكامل مقابل الجلاء الكامل عن الأرض العربية المحتلة عام 1967. أما المسألةُ الإسلاميةُ، ومَنْ يملكُ حقَّ التحدث باسم الإسلام، وما هي مؤهِّلاته، فالواضحُ أنّ مرجعية خادم الحرمين لا تقلُّ بل ترجح على أيّ مرجعيةٍ أُخرى، دون أن تُلغيَ حقَّ أي فريقٍ مسلمٍ في التحدُّث إلى الفاتيكان أو مجلس الكنائس أو بطريرك موسكو أو حاخام نيويورك. والمعروف أنه في السنوات التالية لعام 2001 اعتُبر الإسلام العربي غير مؤهَّلٍ للحوار أو حتّى للبقاء. وصار بعضُ "المحافظين الجدد" يتحدثون عن مستقبلٍ زاهرٍ للعلاقات مع الإسلام الإيراني المنضبط، ومع الإسلام الآسيوي المنفتح. ثم تشاجر الطرفان بعد عام 2006، وما يزالان، وعاد الحديث عن التشدُّد الديني في نظام ولاية الفقيه. ولذا فينبغي حسابُ العناصر جميعاً والتاريخ القريب، وعدم رفع الدعاوى وإصدار الفتاوى على أساس اللحظة الراهنة. وأنا أرى ضرورةَ الشراكة في العلاقات الإسلامية مع العالم الأَوسع، لأنّ الإسلام تعدُّديٌّ في مرجعياته، على أن لا يتحول الأمر إلى ابتزازٍ أو استئثارٍ كما حدث في السنوات الماضية. ومرةً أُخرى، يختلف ملفُّ المرجعية منظوراً إليه من المنظار التركي. فهؤلاء يعتبرون أنفُسَهم، وعلى الخصوص في عهد "حزب العدالة والتنمية"، البديلَ التقدميَّ والمستقبليَّ للإسلام. ولا حرج في ذلك أو حسد، بل ينبغي أن نتنافس معهم إيجاباً في مسائل التنمية والبديل الإسلامي الحضاري. لكنْ هؤلاء مُحْرَجون بشأن التوازُنات مع الجيش التركي وقوات الأمن، والتي ظلت قياداتُها عنيفةً في علمانيتها. كما أنّ الأوروبيين -وهم شديدو الحرص على إرضائهم- لا يحبون عنوانهم الإسلاميَّ مهما بلغ من تقدميته! ويُضافُ لذلك أنهم في حالة تصالُحٍ شبه كامل، ليس مع الذات، بل مع الغربين الأوروبي والأميركي حتى عندما كان العرب والإيرانيون مُحاصَرين بسبب إسلامِهِمْ. ولذا فلا داعيَ لهذا الغمْز والَّلمْز التركي بشأن حوار الأديان. فقد أَحدثتْ لنا أُصولياتُنا مشكلاتٍ مع العالم، ونحن نحاولُ أن نجد حلولاً وخلاصاً منها، وبطرائق لا تختلفُ كثيراً عن الطرائق التركية. لكنْ في حين يحاولُ الأتراك إقناع الأوروبيين بأنّ إسلامَهُم في منتهى الخفّة ولا يزيدُ على مسألة غطاء الرأس؛ فإننا نريد التصالُح مع العالم ونحن بثيابنا كُلِّها دون أن نخلع أو نُخْفِيَ شيئاً، باستثناء إنكارنا أن يمثِّلنا أسامة بن لادن والظواهري وأشباههما. بيد أنّ ما نأخذهُ على تركيا محاولتها الحلولَ محلَّ العرب في فلسطين، ودأَبها من أجل إرضاء الغرب، على السعْي لتكون إسرائيل دولةً طبيعيةً في المنطقة ولا عدوَّ لها، دون أن تكون أرضُنا قد تحررت، والدولة الفلسطينية التي عاصمتُها القدس قد قامت. وباختصار؛ فإنه إذا كان الإيرانيون يريدون أن يتسلَّموا زمامَ ملفّ الحرب لأُمورٍ تتعلقُ بمصالحهم ودورهم في المنطقة؛ فإنّ الأتراك يريدون أن يتسلّموا ملفَّ السلام، لأسبابٍ تتعلق بمصالحهم أيضاً- فقد استمرأَ الطرفان الغياب العربي، والخلافات العربية. وما يجب المصير إليه، وبالأفعال وليس بالأقوال وحسْب: الإصرار على الاستمرار في المبادرتَين، وسيتعود إخواننا في إيران وتركيا على حضورنا، كما تعودوا خلال العقدين الماضيين على غيابنا!