مضى ذلك الزمن الذي كانت فيه دول مثل اليابان وألمانيا وتايوان تتصدر قائمة دول العالم من حيث احتياطياتها من النقد الأجنبي، وجاء زمن صارت فيه الصين، التي لم تكن قبل نصف قرن سوى دولة زراعية بائسة من الفلاحين الجياع، هي المتسيدة في هذا الحقل، بفضل ما تراكم لديها من فوائض النقد الأجنبي المتأتية تحديداً من تصدير مختلف أنواع البضائع والسلع إلى الأسواق العالمية خلال السنوات الخمسة عشر الأخيرة. ويكفينا دليلا في هذا السياق أن احتياطي النقد الأجنبي للصين ارتفع من مجرد 21.4 مليار دولار في سبتمبر 2007 إلى 1.91 تريليون دولار في سبتمبر 2008، فيما كان العجز التجاري للولايات المتحدة وأوروبا واليابان مع الصين يتزايد يوما بعد يوم. لكن هذا لا يعني أن الصين في مأمن تام من الأزمة المالية العالمية الراهنة، مثلما قال رئيس الحكومة البريطانية جوردون براون مؤخراً. ذلك أن مثل هذا الفائض المالي الضخم، سيؤدي لا محالة إلى ارتفاع معدلات التضخم، كما ستجد الصين نفسها أمام جملة من التحديات الأخرى مثل إيجاد أفضل الأماكن والأوعية لاستثمار فوائضها المالية في ظل ما يسود عالم اليوم وأسواقه المالية من تذبذبات، وما تعانيه العملات الأجنبية العالمية وفي مقدمتها الدولار الأميركي من تدهور في قيمته. وفي رأي عدد من المراقبين والمحللين مثل البروفيسور "إيان بينج" أن الولايات المتحدة الأميركية، رغم كل شيء، هي المكان الأكثر أماناً، لكي تستثمر فيه بكين فوائض أموالها نظراً للارتباط الوثيق ما بين الاقتصاد الأميركي والاقتصاد الصيني منذ انفتاح الأخير في أواخر سبعينيات القرن الماضي، ثم نظراً لوجود استثمارات صينية بقيمة تتجاوز 1.8 تريليون دولار في سندات الخزانة الأميركية. هذا فضلاً عن حقيقة أن معظم ما تنتجه المصانع الصينية تشتريه أميركا. هذا الرأي بطبيعة الحال يقابله رأي آخر معارض مفاده أنه من الأفضل للصين أن تكون لها سلة من الاستثمارات المتنوعة في دول مختلفة في الشرق والغرب والشمال والجنوب، مع الحرص على أن تكون هذه الاستثمارات في الحقول الاستراتيجية التي تشكل أهمية خاصة للصين حالياً أو في المستقبل مثل مصادر الطاقة. وأصحاب هذا الرأي الأخير، لا شك أنهم لا يزالون مشدودين إلى الماضي، بمعنى أنهم يتخوفون من حدوث ما يرجع عقارب الساعة إلى الوراء ما بين بكين وواشنطن، وبالتالي عودة صراع البلدين القديم الذي أنهته دبلوماسية "البينج بونج " الكيسنجرية (نسبة إلى وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر). هؤلاء - ومعظمهم ممن يفضل الثنائية القطبية على نظام القطب الأوحد - يتناسون عمدا ما طرأ على علاقات البلدين في السنوات الأخيرة من تفاهم وود و تعاون في حقول التصدى المشترك للإرهاب وأسلحة الدمار الشامل وحل النزاعات الإقليمية إلى الدرجة التي صار معها ملف العلاقات الصينية - الأميركية غائباً تماماً أو شبه غائب في حملات انتخابات الرئاسة الأميركية. ولعل أفضل وأقرب مثال هو ما حدث في الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها المرشح "الديمقراطي" باراك أوباما، حيث اقتصر ما قاله الأخير على أنه في حال فوزه بالرئاسة سيستخدم الأساليب الدبلوماسية مع الصينيين من أجل حلحلة مسائل مثل الاحتباس الحراري والعجز في الميزان التجاري ومسؤوليات الصين كقوة عالمية صاعدة، فيما كان موقف منافسه الجمهوري "جون ماكين " هو أنه سيضغط على الصينيين من أجل استخدام نفوذهم وعلاقاتهم مع نظام "رانجون" الديكتاتوري بغية إحداث بعض الإصلاحات السياسية، ومع نظام عمر البشير في السودان بغية إيجاد حل لمشكلة دارفور. ويمكن أن نضيف هنا - من واقع تطورات العلاقات الأميركية - الصينية منذ زمن الرئيس ريتشارد نيكسون الذي شهدت رئاسته في عام 1972 الانفتاح على النظام الماوي في بكين - أنه حتى حينما يُقال كلام متشدد ضد الصين من جانب مرشحي الرئاسة الأميركية اثناء حملاتهم، فإنهم سرعان ما يلطفون مثل هذا الكلام بعيد انتخابهم. والأمثلة في هذا السياق كثيرة منها أن خطاب الرئيس الأسبق رونالد ريجان أثناء حملاته الرئاسية تميز بمواقف حادة جداً تجاه بكين فيما يتعلق بقضية تايوان، لكن هذا الخطاب شهد تغيراً كبيراً بمجرد دخوله البيت الأبيض. ومنها أيضاً أن الرئيس الأسبق بيل كلينتون دعا إدارة الرئيس بوش الأب إلى ضرورة ربط التجارة مع الصين بمسائل حقوق الإنسان في الأخيرة، لكن كلينتون نفسه حينما جاء إلى الرئاسة لم يفعل شيئا في هذا المجال، بل قام اثناء فترة رئاسته الثانية إلى رفع العلاقات الأميركية - الصينية إلى مستوى الروابط الاستراتيجية دون حصوله على مقابل من بكين. والسؤال الآن هو هل سيغير أوباما موقفه المعلن من الصين رغم أن الصين لم تكن- كما في الماضي- على قائمة السجالات في الحملات الرئاسية؟ وبصيغة أخرى كيف ستتعامل إدارة اوباما مع قوة صاعدة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وعلمياً، و ا تخفي طموحاتها في بلوغ القمة ومنافسة أميركا؟ المرجح أن البيت الأبيض في ظل إدارة أوباما سيسير على نفس النهج الذي سار عليه سلفه جورج دبليو بوش لجهة التعامل مع بكين، أي أنه سيختط نهجاً قائماً على التعاون والروابط البناءة، لكن مع تقديم بعض التنازلات فيما يتعلق بالعلاقات والروابط مع كل من طوكيو وسيئول وتايوان وكانبيرا ونيودلهي، وكلها دول حليفة لأميركا ومنافسة للصين. الأمر الآخر هو أن إدارة أوباما ستضطر في ظل ظروف العالم المالية غير المستقرة أن تركز جهودها على الشق الاقتصادي في علاقات بلادها مع الصينيين، خاصة أن النواب "الديمقراطيين" أصحاب السيطرة داخل الكونجرس الأميركي يحملون بكين مسؤولية لعب أدوار اقتصادية غير عادلة، ولا تتسم بالشفافية ومخلة باتفاقيات انضمامها لمنظمة التجارة العالمية. والسبب بطبيعة الحال هو تشجيع الصينيين على لعب دور مؤثر وفعال في جهود إنقاذ العالم من هزته الاقتصادية الأخيرة، وذلك من خلال توظيفهم لجزء من فوائض أموالهم المتراكمة الضخمة. هذه الجهود التي بدأها في الواقع الأوروبيون قبل انعقاد قمة العشرين أثناء حضور زعمائهم لقمة آسيا - أوروبا السابعة التي استضافتها بكين هذا العام وحضرها نحو أربعين رئيس دولة وحكومة. وجملة القول، إن الصينيين المعروفين بنظرة عنصرية تجاه أي عرق غير عرقهم الأصفر، وجدوا في فوز أوباما الأسود منعطفاً حاسماً في التاريخ الأميركي، قد يسمح يوماً ما بوصول رئيس أميركي أصفر إلى البيت الأبيض، خاصة أن الولايات المتحدة تحتضن ثاني أكبر جالية صينية في العالم خارج الصين. ومن هنا لم يلتفتوا كثيراً إلى ما قد يحدثه أوباما الرجل قليل الخبرة والتجربة والحنكة من تغييرات في السياسات الأميركية تجاه بلادهم، من تلك التي قد تؤثر على أوضاعهم الداخلية ومستويات معيشتهم. أما على الصعيد الرسمي، فان النظام الشيوعي الحاكم في بكين، والذي كثيراً ما رفع ملف سوء أوضاع الأميركيين من أصل أفريقي ضد واشنطن كلما رفعت الأخيرة ملف سوء أوضاع حقوق الإنسان والأقليات في الصين، وجد نفسه مع فوز اوباما في مأزق. إذ لم يعد اليوم باستطاعته رفع الملف المذكور، لأنه دفن مع قدرة أوباما على شق طريقه نحو البيت الأبيض في انتخابات جماهيرية حرة، بل أتاح الحدث اليوم للأميركيين أن يتساءلوا إنْ كان بامكان بكين أن تضمن وصول مواطن صيني من التيبت أو هونج كونج أو تركستان الشرقية إلى مناصب رئاسة الدولة أو قيادة الحزب الحاكم أو مؤسسة الجيش. د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشؤون الآسيوية من البحرين البريد الالكتروني: elmadani@batelco.com.bh