الجامعة المصرية هي التي تأسست كجامعة حكومية عام 1952. هي ابنة ثورة 1919. تبرع بأرضها وبنائها أمراء وأميرات وباشوات مصر الوطنيون. تجمع بين العلم والوطن. وتهدف إلى تكوين العالم والمواطن. نشأت في فكر الإصلاحيين، محمد عبده وقاسم أمين، وفي عقول كل من كان يعمل لنهضة مصر. بها تكونت اللجنة الوطنية للطلبة والعمال عام 1946 التي كانت تجسد الحركة الوطنية المصرية ومطالبها في الحرية والاستقلال. وسقط شهداؤها بعد فتح كوبري "عباس" على الطلبة المتظاهرين فوقه. ودافعت عن الديمقراطية في أزمة مارس 1954 عندما اصطدمت القوى الديمقراطية بـ"الضباط الأحرار"، ووقع الشهداء مرة ثانية. ومنها خرجت المظاهرات ضد ما عرف باسم أحكام الطيران في مارس 1968 بعد محاكمة المسؤولين عن هزيمة يونيو 1967، والقضاء على سلاح الجو المصري، وهو رابض على الأرض. واستمرت مظاهرات الطلاب واعتصامهم في ميدان التحرير عام 1971 مطالبين بتحرير سيناء التي كانت من أسباب اندلاع حرب أكتوبر 1973. وقادوا مع جموع الشعب مظاهرات يناير 1977 ضد رفع الأسعار وسياسة الانفتاح وبداية التحول عن الطريق الاشتراكي باسم ثورة التصحيح في مايو 1971. واستمرت الجامعة حامية للوطن العربي، فقامت المظاهرات الطلابية ضد الغزو الأميركي للعراق في مارس 2003 والعدوان المتكرر عليه، وضد حرق منبر المسجد الأقصى، ودعماً للانتفاضة منذ 1987، ودفاعاً عن حقوق شعب فلسطين ضد العدوان الإسرائيلي. ولا يكاد يمر عام إلا ويعبر الطلاب عن أزمة الوطن، القمع والقهر والفقر والضنك في الداخل، والعدوان في الخارج. وفي الوقت نفسه، قامت الجامعة بتكوين مفكري مصر الأحرار وعلمائها الأفذاذ، أحمد لطفي السيد، وطه حسين، وأحمد أمين، وأمين الخولي، وزكي نجيب محمود، وعثمان أمين، وعبدالرحمن بدوي، ومصطفى سويف في الفكر والأدب، ومشرفة ونظيف في العلم، والسنهوري والشاوي في الحقوق، ومستجير في الزراعة. وما أكثر الأطباء والمهندسين والسياسيين والاقتصاديين والتجاريين الذين خرجتهم الجامعة وأصبحوا جزءاً من تاريخها. وفي دار العلوم، درس محمد عبده ورشيد رضا، وتخرج مدكور، وفيها عمل محمد غنيمي هلال وغيرهم من أقطاب النقد الحديث. وأمام بوابة الجامعة الحديدية التي تمت تقويتها أخيراً حتى لا يفتحها الطلاب عنوة للخروج من الأسوار إلى الشارع العريض أُقيم النصب التذكاري للشهداء وفي آخر الشارع قبل شارع الجيزة وكوبري الجامعة تمثال نهضة مصر قبل أن يعلو علم إسرائيل على سفارتها من أحد الأدوار العليا من بناية عالية تطل على النيل في بداية كوبري الجامعة. فالجامعة من أجل نهضة مصر، والشهداء دفاعاً عن استقلال مصر. لا فرق بين مختار وعمر شاهين، بين أحمد لطفي السيد وعبدالحكيم الجراحي، بين علماء مصر وشهداء حرب الفدائيين في قناة السويس عام 1951. والطلبة إما في المدرّج يستمعون إلى الأستاذ أو في المكتبة يقرأون أو في الحرم يتظاهرون. ولم يكن يجلس في "بوفيه" الكلية إلا الطلبة الفاشلون، والأغنياء الذين يستطيعون دفع المشروب بقرشين أو وجبة الغداء ونموذجها طبق العميد بسبعة قروش أو الذين آثروا الحب والغزل للعب أو الزواج على العلم والوطن. وكانت جماعات من الطلبة تجلس فوق العشب الأخضر للتذاكر والتدبر والتفكير في أحوال البلاد من كل التيارات. والآن تغير الحال، وسبحان مغير الأحوال. تحول حرم الجامعة بعد الظهر أحياناً إلى ملعب لكرة القدم من مجموعات صغيرة بين العربات والمارة من الأساتذة والطلاب وراء مباني الكليات. ومن الطلاب من يقف بلا هدف بل من أجل قضاء الوقت. ويزحمون الممرات الرئيسية بين الكليات مثل ظاهرة التسكع في الشوارع وفوق الكباري وعلى ضفاف فروع النيل وداخل "المولات" و"السوبرماركت". ولما استفحلت الظاهرة، أصبح الشرطي بصافرته يمر في الطرقات داخل الحرم لينبه الطلاب على ضرورة المغادرة كما هي الحال في الحدائق العامة. فيخرجون من داخل الحرم إلى خارجه على أسوار الجامعة وبين السرايات ومطاعمه ومحلاته. يزحمون الطريق، ويعوقون العربات أمام المدينة الجامعية. وتحت النصب التذكاري بالنهار وفي ساعات الخطر والتنبؤ بإمكانية المظاهرات تنتشر فرق الأمن المركزي بخوذاتها وعصيها وعرباتها المصفحة السوداء استعداداً وكأنها ساحة حرب. فالعصا لمن عصى. والاعتقال لمن خرج من الأسوار. وفي المساء دق الطبول والدفوف والأغاني. وعلى طول الطريق حتى تمثال نهضة مصر فرق الزفاف للعروسين والأهازيج. وأصبحت الجامعة مثل حي الأزهر والحسين يؤمه العروسان للتبرك والتيمن بالبنات والبنين. ووسط هذا كله تمر العربات و"الميكروباصات" تنادي على الهرم وأم المصريين ليقفز الطلاب والطالبات فيها. فضاعت حرمة الجامعة وهيبتها. وبعض الأساتذة في داخل الحرم مشغولون بالجودة، والحضور أربعة أيام في الأسبوع لقضاء ثمان وعشرين ساعة في الجامعة بلا مكاتب ولا أجهزة اتصالات أو شبكة معلومات، وتوقيع رئيس القسم على الحضور والغياب والنشر في مجلات دولية للحصول على المكافآت الإضافية بعد أن ندرت الإعارات بعد اكتفاء الجامعات العربية بمواطنيها من الأساتذة الجدد. وإن وجدت جامعة ففي أقاصي الصحاري والبلدان البعيدة. وآخرون مشغولون بلجنة السياسات وتوصياتها في التعليم وتدخلها المباشر أو غير المباشر في شؤون الجامعة. والأساتذة غير المتفرغين الذين تجاوزوا السبعين ما مصير مستقبلهم بعد أن أفنوا عمرهم داخل الجامعة. فهل هم داخلها أم خارجها؟ واللجان الدائمة انتهت الدورة الماضية في آخر سبتمبر وما زال التشكيل الجديد في المراجعة ومصالح الأساتذة معطلة منذ شهرين لأن اللجان لا تعمل لا بتشكيلها القديم ولا بتشكيلها الجديد. والكل يتحسر على حال الجامعة، الليبرالية قبل 1952 أو القومية الاشتراكية بعدها. فهل القديم بالأمس أفضل من الجديد اليوم؟ وهل الماضي أفضل من الحاضر؟ لقد كان الأجداد أفضل حالًا من الآباء. وكان الآباء أفصل حالاً من الأبناء. فهل يكون الأبناء أفضل حالًا من الأحفاد إذا كان في الأذهان مسار الجامعة من ماضيها إلى حاضرها، ومن حاضرها إلى مستقبلها. هل التاريخ في انهيار مستمر؟ وهو تصور الحركات الماضوية لعلاقة السلف بالخلف الذين أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات. فالكل ماضوي. ولماذا الحسرة على الجامعة؟ على الأقل يقول البعض الهجرة، ومغادرة البلاد والبحث عن الرزق والحياة الكريمة في البلاد البعيدة هي الحل. وفريق آخر يقول لا حل. بل إن الجامعات الأجنبية ليست أفضل حالًا. والجامعة الأميركية أشهرها وأقدمها. فحرمها الجديد خارج القاهرة أشبه بمجمع تجاري، ومحلات تمثل الشركات الأجنبية في الطعام والشراب. حصن حصين لا يدخله إلا حاملو التصريحات. خدماتها في الداخل ما زالت ناقصة. والطلبة يتظاهرون لإرجاع ما دفعوه في مقابل خدمات غير متوافرة. والجامعات الخاصة الجديدة مصرية وعربية وأجنبية تهدف إلى الربح. وتعتمد في معظمها على أساتذة الجامعات المصرية، تهدف إلى التعليم من أجل السوق. فالعلم حرفة لا رسالة، مهنة لا قضية، تحصيل في الوطن، استعداداً للحاق بسوق العمل الدولي. لم يبق من الروح القديمة إلا جماعة 9 مارس التي ما زالت تناضل من أجل استقلال الجامعات ودورها في تربية الفكر الحر، والمواطن الصالح، والعالم الأصيل. وهناك أجيال جديدة من الطلاب ثائرة غاضبة دون أي ولاء أيديولوجي أياً كان إلا لمصر النهضة. أقلية نعم، ولكنها قد تكون أغلبية غداً إذا ما انتفضت. فالجامعة وطن صغير. كما أن الوطن جامعة كبيرة. فبأيهما نبدأ؟