بُعيد جريمة 11 سبتمبر 2001 بدا كأنّ القرن الحادي والعشرين يبدأ بثورة يمينيّة يرمز لها "المحافظون الجدد"، تطاول كلّ ما تقع عليه يد السياسة والبعض الكثير مما تقع عليه يد الاجتماع. وقد تراءى لمحبّي المقارنات الألفيّة أن الثورة اليمينيّة التي تفتتح القرن الجديد ستكون المعادل النقيض للثورة اليساريّة التي افتُتح بها القرن العشرون، أي استيلاء الشيوعيّين البلاشفة على الحكم في روسيا في أكتوبر 1917. لكنْ مع انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتّحدة الأميركيّة بدأ يشيع تعبير آخر هو أن القرن الحادي والعشرين الفعليّ ابتدأ بهذا الانتخاب. ومعنى ربط البداية بأوباما لا بالمحافظين الجدد، لا يخفى على أحد. فهو، من جهة، وهذه حقيقة بارزة، يفيد أن الثورات الراديكاليّة، اليمينيّ منها واليساريّ، غدت أقلّ قدرة على إطلاق البدايات وتأسيسها مما كانت عليه قبلاً. كما يفيد، من جهة ثانية، أن الانتقالات التدرّجيّة المتماسكة هي ما غدا الأشدّ تأهيلاً لمثل ذينك الإطلاق والتأسيس. والحقّ أن هذه مسألة خلافيّة عميقة في التاريخ الفكريّ والسياسيّ الأوروبيّين اللذين أصبحا تاريخاً أميركيّاً، إن لم يكن عالميّاً. ففي مقابل الثورة الفرنسيّة إبّان لحظاتها الثوريّة العاصفة، والتي باشرت تأريخ العالم من صفر (هو لحظة حدوثها)، كما في مقابل النقد الرجعيّ لتلك الثورة، والذي ركّز على فضائل "حكمة الأجيال" المتراكمة بديلاً عن التغيير، شرعت تتطوّر نظريّات تؤكّد على التغيير بما لا يطيح "حكمة الأجيال" المتراكمة، وبما -وهذا هو الأهمّ ربّما- لا يتجاوز قدرات المجتمع المعنيّ على الاحتمال. وباراك أوباما في جمعه بين التجديد والاستمراريّة حالة نموذجيّة رفيعة في المعنى هذا. فهو، كما بات معروفاً جيّداً، نصف أسود ونصف أبيض، موصول بالإسلام وبأفريقيا من خلال أبيه حسين أوباما، وموصول بالعالم الأميركيّ التقليديّ من خلال تربيته في وسط تقليديّ أبيض ودراسته في بعض جامعات النخبة البيضاء (هارفارد وكولومبيا). والشيء نفسه يمكن أن يقال عنه اجتماعيّاً حيث إن "الغربة" التي تضيفها عليه "أفريقيّته" و"إسلامه" يعوّضها "قرباً" أن والده اقتصاديّ يسعه، لو عاش في الولايات المتّحدة، أن ينتمي إلى إحدى شرائح الطبقة الوسطى، وربّما أعلى شرائحها. ولا يُقدّر هذا الطابع التدريجيّ والانتقاليّ حقّ قدره من دون قياسه بـ"سلالة" بوش الضاربة جذورها في العمق التقليديّ لأميركا المحافظة، البيضاء والغنيّة، والتي كان جورج دبليو آخر حبّات عنقودها. والحقّ أن الفارق بين الثوريّة غير التدرّجيّة وتلك الانتقاليّة التي يعكسها أوباما يتمثّل في وجهين أساسيّين: الأول، عنفيّة الثوريّة الأولى وتمجيدها للدم والشهداء مقابل مؤسسيّة وديمقراطيّة الثوريّة الأخرى، الوفيّة للأنماط المألوفة في التعاطي مع المسائل وسوسها وتدبّرها. والثاني، كون الثوريّة الأولى مقدّمة لنظام أيديولوجيّ واستبداديّ (على ما يدلّ عدد لا يُحصى من التجارب اليساريّة واليمينيّة على السواء)، مقابل كون الثوريّة الثانية استئنافاً يجدّد من داخل الأطر والتقاليد نفسها. وبلغة أخرى، فإن الثوريّة التدرّجيّة هي وحدها الممكنة، التي تجمع بين الحفاظ على ما هو قائم وبين دفعه النقديّ إلى الأمام في الحدود التي يحتملها المجتمع. بيد أن التجلّي الأوضح لما أسميناه بالثوريّة التدرّجيّة مرشّح لأن تكون الساحة المجتمعيّة والثقافيّة ساحته المباشرة. فبعد حربين كبريين حُملت إدارة جورج دبليو بوش على خوضهما، في أفغانستان والعراق، من داخل مواجهة أشمل هي "الحرب على الإرهاب"، يُرجّح للأولويّة أن تستقرّ، مع أوباما، في مكانين آخرين: الأوّل والأكثر إلحاحاً بالمعنى الوظيفيّ، كما المصلحيّ، هو المجال الاقتصاديّ. والحال أن الأزمة الماليّة الطاحنة وما تأدّى عنها من وضع أكبر الاقتصادات العالميّة ما بين ركود وكساد، جعلت الاقتصاد موضوع المواضيع. فإلى أي حدّ ستصل راديكاليّة أوباما في مواجهة هذا التحدّي؟ وأيّ شكل سيتّخذه التعاون والتنسيق مع القوى الدوليّة المؤثّرة الأخرى؟ لقد خرج مؤتمر القمّة الاقتصاديّ الأخير، الذي رعاه جورج بوش، بنتيجة ملتبسة: من جهة وسّع قاعدة القرار الاقتصاديّ من ثماني دول إلى عشرين، وهي خطوة تواكب العولمة ومتطلّباتها، إلا أنه، من جهة أخرى، رفض اعتماد ميكانيزمات رقابيّة جامعة وفعّالة على حركة الدفوق الماليّة بحجة أن أمراً كهذا يتنافى مع حريّة السوق. فكيف سيتعامل أوباما مع هذه المسألة؟ كائناً ما كان الأمر، وفي انتظار ذلك، يبقى أن تركيز المرحلة المقبلة على الاقتصاد سيحجب، في ما يحجب، بعض العناوين الأيديولوجيّة الصارخة التي بلغت ذروتها في دعوات "صراع الحضارات". وربّ ضارة نافعة، بحيث يتأدّى عن الأزمة الماليّة الراهنة بعض العقلانيّة في جعل النفع يتقدّم على التعصّبات في سائر أنواعها، بما في ذلك موجة التديّن التي ضربت الولايات المتّحدة وبعض البلدان الغربيّة في سنوات العقد ونصف العقد منذ أوائل التسعينيات. ولنا أن نقول هنا، بقليل من التردّد، إن التصويت لأوباما في بعض المعاقل "الجمهوريّة" والبيضاء، إنّما الفقيرة، يحمل على أخذ احتمال كهذا بعين الاعتبار. أما المكان الآخر لاشتغال الأولويّة الأوباميّة، ولو على المديين المتوسّط والأبعد وبعد تذليل التحدّي الماليّ، فهو العلاقات العرقيّة واللغويّة. فهنا يُرجّح أن تُستعاد، بزخم أكبر ووتائر أعلى، تلك النبرة الكلينتونيّة التي ترافق صعودها مع صعود مسائل بناء المجتمعات التعدّدية في الغرب. وبكلمة أخرى، يمكن القول إن الدفوق البشريّة الكثيرة السحنات والثقافات التي صبّت في المجتمعات الغربيّة، وكانت هجرتها من أبرز علامات العولمة، قد تعثر في الأوباميّة على الثقافة المعولمة في شكلها الإيجابيّ (بعد طول اكتفاء بالكوكا كولا والهمبرغر...). وهكذا تحتلّ السياسات المجتمعيّة في السياسات حصّة أكبر بلا قياس. ولا يُستبعَد أن تنعكس توجّهات كهذه علينا على شكل تعاظم التركيز على مسائل الأقليّات وأوضاعها، دينيّة كانت، كالمسيحيّين العرب، أم إثنيّة، كالأكراد والدارفوريّين وأمازيغ منطقة المغرب العربيّ وغيرهم. وفي حال حصول تحوّل كهذا، لا بدّ أن تعكسها السياسة الخارجيّة للإدارة الجديدة، لاسيّما إذا ما تولّى كلينتونيّون (هيلاري مثلاً؟) وزارة الخارجيّة. وفي هذا جميعاً يمكن للتدرّجية أن تقع على تأصيلها وما تحتاجه من مصادر في التاريخ الأميركيّ الحديث، فضلاً عن القديم، تستند إليه. وغنيّ عن القول إن هذه الموجة، في حال انطلاقها، ستغاير الحفاظ على الأوضاع القائمة إذ سوف تهزّ التراكيب والنظم الاستبداديّة، غير أنّها، في المقابل، لن تكون حروباً لإسقاط الأنظمة وبعثرة المجتمعات بين عشية وضحاها، من دون أن يكون في الأفق أيّ بديل محتمل.