منذ أن أخذت دول أفريقيا في الاستقلال وهي تعاني مشكلات سياسية اقتصادية اجتماعية أدت بها إلى الدخول في موجات من العنف المسلح الذي يجتاح الآن حوالي 27 من 46 دولة. إن حركات التحرير برزت وقدمت نفسها على أنها خاضت الحروب لكي تحرر بلدانها وتقوم بتنميتها، لكن الذي حدث هو أنها نادراً ما تصرفت بشكل أفضل من النظم التي انقلبت عليها، فلماذا لم تظهر في أفريقيا حركات تحرير نزيهة تفي بالوعود التي قطعتها على نفسها؟ إن جميع حركات التحرير في أفريقيا ادعت لنفسها عند قيامها أنها حركات تسعى إلى تحقيق التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فلماذا لم يحدث ذلك؟ وألا تستحق الجماهير الأفريقية الكادحة أن تحظى بحركات تحرير شريفة في بلدانها تقودها إلى بر الأمان؟ أو ليس الإنسان الأفريقي كبقية البشر يسعى إلى تأمين حياته وحياة ذريته ولقمة عيشه؟ الغريب في الأمر أنه من السهل جداً تدشين الحركات المسلحة في معظم بلاد القارة الأفريقية، فمع وجود دول هشة ليست قادرة على فرض سيطرتها، فإنه من السهل على الحركات المسلحة أن تقوم بتأسيس الميليشيات الخاصة بها وتقوم بتمويلها وتزويدها بالعدة والعتاد والرجال. إن كل زعيم عصابة في أفريقيا يستطيع رفع العلم الخاص به، وأن يسلح أتباعه الذين يقوم بتجنيدهم، وأن يعلن عن قيام الثورة. إن من المفترض مبدئياً أن يكون بناء جيش مسلح خاص أمر صعب؛ لأن على الشباب الذين ينخرطون في صفوفه التضحية بأرواحهم أو وضعها موضع الخطر، وذلك في مقابل عائد غير معروف بدرجة عالية. إن عملية قيام الدولة الوطنية في أفريقيا أخذ منحى مختلفاً عن الطريقة التي قامت بها في مناح أخرى من العالم، ففي أفريقيا من النادر أن يلجأ قادة الحركات المسلحة إلى المواطنين للحصول منهم على الموارد اللازمة لتمويل حركاتهم وجيوشهم الخاصة. إن شن الحروب من خلال الحركات الثورية والمتمردة آخذ في أن يصبح قليل التكلفة، والوسائل اللازمة لخوضها باتت تتدفق من خلال عمليات تهريب الموارد الطبيعية والنادرة بوسائل غير قانونية، ومن خلال المساهمات والدعم الآتي من الخارج. وأيضاً، فإن الشرعية أصبحت تعتمد ببساطة على القدرة على السيطرة على العاصمة القومية التي من خلالها يتوافر مقعد للدولة في الأمم المتحدة، فمن خلال ذلك يتم اكتساب الشرعية الدولية والسيادة. ً إن أكثر الأمور غرابة هي أنه في هذا الجزء من العالم الذي تشكل فيه الحروب الأهلية ظاهرة مرضية، فإن القارة الأفريقية تواجه نقصاً حاداً في وجود ثوار حقيقيين ملتزمين بمبادئ ثورية راسخة ذات أهداف نبيلة يسعون من خلالها إلى قيادة حركات تحرر ملتزمة باستبدال أنظمة الحكم الفاسدة والقائمة منذ نيل الاستقلال بأنظمة أخرى فعالة وذات شفافية في التعامل مع شعوبها. إنه فقط في المناطق التي وجدت فيها جيوش تحت تعبئتها وتزويدها بالموارد اللازمة تمت مشاهدة ميلاد حركات مقاومة قامت بحماية مصالح الفقراء والتكلم بألسنتهم، لكن في الأقطار الغنية بالموارد الطبيعية، حيث تقوم النخب بنهب الثروات عوضاً عن توفير احتياجات الجماهير الشعبية، فإن المواطنين تم ابتلاؤهم بحركات مسلحة فاسدة في أصل تكوينها وممارساتها وكافة التداعيات المترتبة على ذلك. إن هذه البيئة التي يوجد فيها مستغلو الفرص الذين يدعون الثورية والكفاح لتحقيق مصالح الشعب هي أكثر البيئات جذباً لشذاذ الآفاق الذين يتمكنون من تشكيل العصابات المسلحة وتجييش الجيوش، ففي هذه البيئة تكون العوائق أمام تشكيل الجيوش الخاصة شبه معدومة، والعائد من وجود تلك الجيوش مرتفع، ويكون المجرمون والأفاقون من الكثرة، بحيث يتمكنون من إزاحة الحركات الثورية الحقيقية من أمامهم. لذلك ثمة مسؤولية على عاتق الدول الصناعية الغنية والمصنعة للأسلحة التي تستخدمها العصابات المسلحة والجيوش الخاصة، وعلى الأمم المتحدة ممثلة في مجلس الأمن التصدي لهذه الظاهرة عن طريق العمل على منع كافة الموارد، من مال وسلاح وأفراد، عن مثل هذه الحركات وذلك بالتعاون مع دول أفريقيا ذاتها. ورغم أن هذا مطلب يبدو صعباً لأن مصالح العديد من دول الغرب باتت مرتبطة بوجود مثل هذه الحركات الفاسدة، خاصة حين توجد الموارد الطبيعية النفيسة كالماس والذهب والبلاتين، إلا أنه لا توجد طريقة عملية أخرى لاجتثاث هذه الظاهرة من جذورها لأن دول أفريقيا ذاتها عاجزة تماماً عن القيام بذلك.