هناك اتفاق واسع على ضرورة أن يتوج باراك أوباما انتصاره الانتخابي الباهر بسياسات ترضي فئات كثيرة وتعيينات تعكس التسامح والانفتاح على الجمهوريين. وشخصياً، أعتقد أن على الرئيس أن يتبع الخطوط العريضة لهذه النصيحة. والحقيقة أن الجانب الأكثر إثارة للإعجاب في فوز أوباما هو حجمه؛ فقد كان من المهم بالنسبة لأول رئيس من الأقليات في أميركا أن يؤمِّن أغلبية واضحة، وليس رفع نسبة مشاركة بعض المجموعات من أجل تحقيق نصر صغير ينم عن الانقسام. فأوباما لم يفز فحسب، وإنما فاز على نحو مقنع. لكن فوزه الكبير يحمل بين ثناياه عبئاً يتمثل في ائتلاف واسع يضم معتدلين قد تنفرهم خطواتُه الأولى. صحيح أن انتخابه مثل إنجازاً تاريخياً كبيراً، لكنه لم يكن ثورة أيديولوجية، بل الواقع أن أوباما تمكن من الفوز عبر إقناعه كتلة ناخبة مستقرة إيديولوجياً بأنه ليس راديكالياً متشدداً. من المنطقي أن يسعى الرئيس الجديد إلى تنفيذ أهدافه الرئيسية، وهي معالجة الاقتصاد، وخفض الضرائب بالنسبة للطبقة الوسطى، وإصلاح نظام الرعاية الصحية، وتطوير الطاقات البديلة... وفق سياسة وسطية مرنة. ومن المنطقي أن يعين زعماء محترمين يبعثون على الاطمئنان في مناصب اقتصادية وأمنية رئيسية (الاحتفاظ بوزير الدفاع روبرت جيتس سيمثل مؤشراً على نبذ التعصب الحزبي ومجازاة الكفاءة). ثم إنه من المنطقي تجنب المعارك الثقافية المبكرة التي قد تهيج الأقلية المجروحة في الكونجرس، وتثير رد فعل قويا من قبل المحافظين المكتئبين، وتقوض حظوظ رأب الانقسامات الحزبية. غير أن لفلسفة الانفتاح والاعتدال حدوداً، فهي وسيلة للزعامة، وليست سياسة في الجوهر. فمن السهل تخيل مستشاري أوباما يجادلون بأن على الديمقراطيين أن يركزوا حصرياً على القضايا التي تقض مضجع الطبقة الوسطى؛ وبأن التعاطي مع الفقر المدقع في أميركا، لاسيما في أوساط الأميركيين من أصول أفريقية، قد يكون "فئوياً" جداً بالنسبة للرئيس الجديد، وبأن التركيز على احتياجات أفريقيا يبدو أمراً موغلا في الليبرالية وسيلفت الانتباه إلى خلفية أوباما نفسه؛ وبأن على أوباما أن يترك هذه القضايا "الطائفية" لنهاية فترة ولايته حين تتقلص قوته. نعلم جميعاً أنه لا بد من معالجة الأزمة الاقتصادية الحالية، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب الطموحات الأكبر والمسؤوليات التاريخية. إن اللامبالاة السياسية تجاه الفقر الذي تعانيه بعض شرائح مجتمعنا، يمثل منذ وقت طويل فضيحة حقيقية وسيمثل، مع أوباما، مأساة كبيرة. لذلك، على أميركا أن تعمل من أجل "توزيع الثروة"، لكن ليس بالمعنى التبسيطي المتمثل في إعادة التوزيع، لأن الانقسام العرقي في بلادنا كبير جداً، وبخاصة حين يتعلق الأمر بالودائع والممتلكات. فعلى سبيل المثال، بلغ متوسط ثروة الأميركيين البيض والآسيويين في عام 2004 نحو 142700 دولار لكل فرد، بينما بلغ متوسط ثروة الأميركيين الأفارقة حوالي 20400 دولار للفرد الواحد. وهناك أسباب كثيرة وراء هذا التفاوت الكبير، منها ما وصفه لينكولن بـ"قرون من العمل الشاق غير المعترف به". قد يقترح البعض هنا التعويض وجبر الضرر، غير أن تلك طريقة سياسية مسدودة قد تفضي إلى الهلاك. لكن ماذا لو اقترح أوباما إنشاء حسابات ادخار خالية من الضرائب لفائدة كل طفل فقير عند الولادة، وجرى تطعيم هذه الحسابات وتعزيزها ببضعة آلاف من الدولارات؟ وفيما يتعلق بأفريقيا، يمكن القول إن أصول أوباما وشعبيته في القارة، والتي عكستها أجواء الفرح والابتهاج بعد إعلان انتخابه، تعد ميزة لصالح السياسة الخارجية على اعتبار أن أفريقيا مصدراً مهماً للتجارة والطاقة والدعم خلال عمليات التصويت في المؤسسات الدولية. وبالتالي فإن مواصلة تركيز الرئيس أوباما على أفريقيا وتعزيزه لن يمثل أمراً "فئوياً"، وإنما سيعكس رؤية وبعد نظر، وسيجد له جمهوراً متفهماً من بين الأميركيين، ومنهم المحافظون المتدينون. إن الزعامة الرئاسية تعني أحياناً التركيز على التقدم بالنسبة للكل وعلى التوصل إلى توافقات أيديولوجية. لكن الزعامة تقوم أحياناً على رسم أهداف أخلاقية تتحدى الكل وتسمو فوق الاختلافات وتتجاوزها. وبالتالي فإن الرئيس المقبل سيكون بحاجة إلى مستشارين يسعون إلى وضع قضايا العدالة الاجتماعية على الأجندة، وإذا نجحوا في ذلك، فقد يكتشف أوباما موارد غير متوقعة للتأييد والدعم. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس انجلوس تايمز وواشنطن بوست"