مبدأ السطو على أرض الغير وطرد أصحابها وتوطين قادمين من الشتات فيها، فكرة لها أساسها الأيديولوجي وبعدها الاستراتيجي الذي يتجسد في مفهوم الاستعمار الاستيطاني. وما إن حلت نكسة 1967 حتى سارعت إسرائيل لاستعمار (استيطان) ما تبقى من الأرض الفلسطينية. وطبقاً لإحصاءات صدرت عن وزارة "الدفاع الإسرائيلية" في يوليو الماضي، فإن تعداد "المستوطنين" اليهود في الضفة والقدس الشرقية تزايد بنسبة 5.5% خلال العام الماضي حتى وصل أربعمائة ألف نسمة، أي أربعة أضعاف تعداده قبل عشرة أعوام. إن ما يقوم به "المستوطنون" من اعتداءات، لا يندرج في إطار تصرفات فردية أو حوادث معزولة، بل هي أعمال تلقى دعماً وتشجيعاً من بعض أوساط الشرطة والجيش. وقد أشار صحافيون يهود ومؤسسات حقوقية إسرائيلية ودولية إلى تصاعد الاعتداءات، وإلى أن ما يزيد عن 95% منها يتم إغلاق ملفاتها دون أية محاسبة ومعاقبة للمستعمرين. وهذه سياسة يشجعها ويدعمها على المستوى الرسمي فاشيون من أمثال "أفغيدور ليبرمان" و"آفي آيتام" وغيرهما من اليمين، بل توسعت كثيراً في الأخيرة وتضمنت حرق مزروعات وأشجار الفلسطينيين واقتحام منازلهم وإطلاق النار عليهم وأيضاً إطلاق صواريخ على قراهم الفلسطينية. لذا، لا نبالغ إن تحدثنا عن "دولة المستوطنين" بعد أن أضحت المستعمرات ترسانات مسلحة ومستنقعاً لتفريخ الفكر الإرهابي وتشكيل تنظيمات تحولت إلى "قوة" ضغط وعدوان "تتحدى" الحكومة الإسرائيلية نفسها! وفي تعليقات على حقيقة "دولة المستوطنين" يقول "كوبي نيف" في مقال بعنوان "زعران المستوطنات فوق القانون"، أنه "يكفي أن يرد جندي واحد بشكل مغاير فيطلق النار على مستوطن ليكون هذا برميلاً متفجراً، وبداية حرب أهلية". ثم يضيف: "واضح أنه يوجد عملياً قانونان مختلفان لليهود وللعرب، وإن استخدام وسائل فرض القانون لا يتم بناءً على فعل خرق القانون بل حسب قومية خارق القانون. فهم لا يتعرضون لليهود الملثمين الذين يهاجمون الجنود والشرطة بالحجارة والسكاكين. أما العرب الملثمون الذين يهاجمون الجنود بالحجارة والسكاكين فيطلقون عليهم النار ويقتلونهم". ويختم بالقول: "الحرب الأهلية بدأت منذ زمن بعيد، والمستوطنون المعربدون ينتصرون فيها". من جانبه، يقول "جدعون ليفي" في "هآرتس" في مقال بعنوان "كراهية... سئمناهم جميعاً"، إن "هناك أوساطا واسعة في المجتمع الإسرائيلي تكره المستوطنين بالفعل. هذه ليست كراهية مجانية بلا سبب ومن أجل الكراهية ذاتها. وإنما بسبب مشروعكم الإجرامي. أجل، هناك إسرائيليون لا يريدون رؤية أبناء (شعبهم) وهم ينهبون ويسلبون الكروم ويحرقون حقول وبيارات الفلاحين الفقراء، نعم هناك إسرائيليون لا يريدون رؤية المستوطنين الطواغيت الملثمين يضربون رعاة الأغنام الفلسطينيين الكهول بالعصي والهراوات. أجل هناك إسرائيليون لا يريدون أن يروا إسرائيليين آخرين وهم يقومون بثقب إطارات سيارات الجنود الذين يحرسون ويطلقون كلابهم الهائجة عليهم. أجل هناك إسرائيليون يخجلون من سكن عشرات الآلاف من رفاقهم على أراض خاصة نهبت في وضح النهار وفي الظلام". أما "عاموس إيلون" فيقول في دراسة بعنوان "المشروع الاستيطاني خطأ الصهيونيين الأكبر"، إن المستوطنين اليوم أصبحوا "أقوى جماعة ضغط سياسية في إسرائيل. فطوال السنوات الماضية كانوا يحصلون على الدعم عبر معونات حكومية سخية جداً. وباستثناء قلة قليلة، فإن المستوطنات لم تجعل إسرائيل أكثر "أمناً" كما كان يدعى في بعض الأحيان. لقد وسع المستوطنون الخطوط الدفاعية، شكلوا لها عبئاً كبيراً جداً لحماية مستوطنات مبعثرة داخل الأراضي الفلسطينية كثيفة السكان". ثم يختم الكاتب بقوله: "هذا كله يشكل حساسيات متفجرة قادرة على إجهاض أي تسوية تاريخية محتملة... إن المشروع الاستيطاني لم يعزز الأمن، بل أضعفه. وربما يقود أيضاً، وهنا أرتعد لمجرد التفكير بذلك، لنتائج أكثر فظاعة بأشواط من تلك التي نشهدها اليوم". ثابت أن سياسة إسرائيل التي تشجع على بناء المستعمرات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي تعمل على "تسمينها"، تخالف القانون الدولي. فبموجب اتفاقية جنيف الرابعة والمتعلقة بالأراضي الواقعة تحت الاحتلال، "يحظر على دولة الاحتلال نقل المدنيين من أراضيها إلى الأراضي المحتلة، ويحظر عليها إحداث تغييرات مستديمة في الأراضي المحتلة ليست لصالح السكان المحليين". وقد طالبت عدة قرارات لمجلس الأمن بأن تزيل إسرائيل مستعمراتها (مستوطناتها) من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. وفي تقرير صدر مؤخراً، قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" إن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية "ليست غير قانونية بموجب القانون الدولي فقط، بل إنها أيضاً عقبة تحول دون تمتع جميع السكان بحقوق الإنسان بمعزل عن التفرقة بينهم بناء على أصل قومي أو عرقي". وثمة التزامات مماثلة ناشئة عن كل من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقد صادقت إسرائيل على العهدين. وهذه المعاهدات الملزمة حسب القانون تحظر بحسب "هيومن رايتس ووتش" ممارسة "أي تمييز من أي نوع وتكفل لجميع الأفراد الحصول على قدر متساوٍ من الحماية ضد التمييز من أي نوع، بسبب العرق أو اللغة أو الدين أو الرأي سياسياً كان أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو غير ذلك من الأسباب". ومن شأن توسع إسرائيل في "المستوطنات" فرض مزيد من التمييز ضد الفلسطينيين، في انتهاك لحقوقهم الأساسية في حرية التنقل والسكن وحق التملك، سواء فرادى أو جماعات. هذا الوضع يجعل ادعاء إسرائيل بسعيها لتحسين أحوال حياة الفلسطينيين ادعاءً سخيفاً. حقاً إن "إسرائيل من الداخل... دولتان، و(شعب) واحد"، كما يلخص إلى ذلك مقال "زئيف شيف"، وقد عبر عن حقيقة وجود ودور "دولة المستوطنين"، إذ كتب يقول: "دولة إسرائيل أقامت دولة المستوطنين، وفي نهاية المطاف ثار المخلوق على خالقه... حركة المستوطنين غدت مجموعة ضغط سياسية قوية، في الحكومة وفي الكنيست... دولة المستوطنين تأبطت السلاح، والآن هناك تخوف من أن يستخدم هذا السلاح ضد الجيش الإسرائيلي والشرطة... وبالمقابل أدخل المستوطنون رجالهم إلى الفروع الأكثر حساسية في الإدارة في إسرائيل... وهكذا سيطروا على معلومات حيوية في الإدارة المدنية في الأراضي المحتلة وسمحوا بأعمال غير قانونية في مجال البناء وخرقوا تعليمات الوزراء". وختم بالقول: "إحدى النتائج هي أنه في دولة المستوطنين، الشرطة تخشى فرض القانون، والجيش يغض الطرف عن أعمال غير قانونية... ومن أجل الحصول على معلومات عن دولة المستوطنين يتعين على جهاز الأمن أن يقوم بطلعات جوية خاصة باهظة الثمن لإجراء التصوير... ومنذ زمن والمستوطنون يتصرفون وكأن دولة إسرائيل هي حكم أجنبي، مثل الانتداب البريطاني في حينه، يأخذون من السلطة ما هو ممكن، يسيطرون على الأملاك والأراضي قدر الإمكان، ويتجاهلون ما لا يريحهم". والحبل على الجرار!