في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لمع أسماء عدد من كبار أثرياء الصناعة الأميركيين الذين أطلقت عليهم تسمية "البارونات اللصوص"، كناية عن نهبهم للثروات وجمعها بطرق غير مشروعة، منافية لأخلاقية التنافس الاستثماري والضوابط المقيدة له. وقد عاث هؤلاء البارونات، خلال عصر الاتحادات المهنية والصناعية، فساداً وبذخاً غير مسبوقين في التاريخ الأميركي. وكانت الدهشة إلى حد الخوف، تسيطر على أولئك الذين قدرت لهم زيارة ما كان يسمى حينها بـ"أكواخ" البارونات، في كل من نيوبورت ورود آيلاند وغيرهما، من فرط ما يشاهدونه من بذخ وبهرجة طبعت تلك "الأكواخ الفاخرة" بفضل الثروات الطائلة التي جناها البارونات اللصوص. وبمقاييس ذلك العصر وعمق الهوة الفاصلة بين حفنة الأثرياء والأغلبية الفقيرة، فقد كان طبيعياً أن تكون هذه البهرجة مثار تقزز وانتقاد واسعين. ولعل أشهر ما قُدم من انتقادات لنمط حياة البارونات، ما نشره صحفي اقتصادي جسور مغامر تمكن من اقتحام حفل نظمه بارونات نيوبورت على شرف عدد من كبار الزوار. ولدهشة الصحفي لم يكن "كبار الزوار" المزعومون هؤلاء سوى مجموعة من كلاب الجيران، أضيئت لها أنوار الزينة الزاهية الملونة، وشرخت لها هدأة الليل وسكونه بالألعاب النارية المفرقعة، بينما وقف على رأسها طاقم كامل مؤلف من خيرة الطهاة والحشم والوصيفات والمضيفات، حتى التهمت وجبة مؤلفة من ثلاثة أطباق رئيسية عدا عن المقبلات والأطباق الجانبية! و سرعان ما انتشرت أخبار حفل عشاء الكلاب الفاخر ذاك كما تنتشر النار في الهشيم، عبر وسائل تكنولوجيا التلغراف والهاتف -الذي كان قد اكتشف للتو- والصحافة الشعبية بالطبع. ومن سوء حظ البارونات أن مأدبة عشائهم الكلبي تلك قد صادفت موجة تباطؤ مروعة في الاقتصاد الأميركي. وكانت ردة الفعل الشعبية على المأدبة عناقيد من الغضب والاستقطاب السياسي والاجتماعي الحاد. وكان أن تصدت إدارة الرئيس الأسبق ثيودور روزفلت لتلك المهازل في نهاية الأمر، ما طبع إدارته بطابع إصلاحي جمهوري. ويذكر أن روزفلت صعد إلى سدة البيت الأبيض عقب اغتيال الرئيس وليام ماكينلي في عام 1910. وأشد ما عرفت به إدارة روزفلت، انقضاضها على تجاوزات النشاط الاستثماري الرأسمالي، بما تضمنته تلك الحملة المناهضة للتجاوزات، من سن للتشريعات الصارمة والرادعة بهدف كسر شوكة الائتمانات المالية المحتكرة لخدمة مصالح البارونات وحدهم حينئذ. كما عرفت تلك الإدارة بالجهود المثابرة التي بذلتها في مكافحة مختلف ممارسات الفساد في أوساط الأغنياء والمستثمرين. وكانت تلك الإجراءات ضرورية في وقت لم يتوان فيه المستثمرون الصناعيون -لا سيما البارونات اللصوص- عن تطويع وتسخير كافة القوانين والمؤسسات الاستثمارية لخدمة مصالحهم، بما يتنافى وقيم الرأسمالية الأميركية نفسها، ويتعارض مع الصالح العام لغالبية المواطنين. وبالمقارنة فإن في الأزمة الراهنة التي تعصف بالأسواق المالية العالمية، وما يصحبها من بوادر ركود اقتصادي يقدر له أن يكون مؤلماً للغاية، ما يثير مشاعر غضب مشابه من المكافآت المالية المهولة التي تلقاها كبار مسؤولي وإداريي وول ستريت، على سوء إدارتهم لأسواق المال الأميركية، وتسببهم في الأزمة المالية الحالية. ومما يثير الغضب استلام الكثيرين منهم مئات الملايين من الدولارات سنوياً، في شكل رواتب وعلاوات سنوية، في الوقت الذي اتخذ فيه هؤلاء قرارات استثمارية طائشة غير مسؤولة، هي التي دفعت المؤسسات المالية والمصارف إلى حافة الإفلاس. ومما زاد الطين بلة وسوءاً اضطرار الكثير من هذه المؤسسات، بما فيها العملاقة منها، مثل "جولدمان ساكس، ومجموعة شركات التأمين الأميركية، و"سيتي جروب" وغيرها، للجوء إلى الخزانة الحكومية الفيدرالية لإنقاذها من مأزق الإفلاس الذي وقعت فيه. وحتى الوقت الحالي، لم توافق سوى شركة واحدة فحسب من بين هذه الشركات والمؤسسات على وقف صرف العلاوات البذخية لمديريها وكبار تنفيذييها، ألا وهي "سيتي كورب". أما بقية المؤسسات والشركات الأخرى التي لا تزال مستمرة في صرف هذه العلاوات، فالأرجح أنها ستحال للمحاكمة، خاصة في ظل المزاج الشعبي العام السائد هذه الأيام، متزامناً مع تعزيز الديمقراطيين لأغلبيتهم داخل الكونجرس. وينبغي لهذه المحاسبة أن تتم بالفعل، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن تداعيات وتأثيرات الركود الاقتصادي، قد بدأت تلقي بظلالها السالبة على كافة فئات المجتمع الأميركي. وربما كانت تداعياتها أقوى وأشد قسوة على اقتصادات ومجتمعات كل من أوروبا وآسيا. وفيما لو كانت عائدات تجارة التجزئة الخاصة بموسم أعياد ميلاد هذا العام بالسوء المتوقع لها، فسوف يجلب العام الجديد -على الأرجح- مزيداً من البطالة والإحباط والغضب. وربما يقضي الرئيس المنتخب باراك أوباما القسط الأكبر من عامه الأول في البيت الأبيض، في مواجهة الأزمة الاقتصادية وحدها، والعمل على معالجتها. وهذا ما يقتضي منه التأكد من أن فريقه الاقتصادي على درجة عالية من الكفاءة والأهلية والخبرة، قبل مراسم تنصيبه للرئاسة بحلول العشرين من يناير المقبل. غير أن عليه أيضاً تعيين فريق محنك في شؤون الأمن القومي، طالما أنه سيرث حربين متزامنتين لا محالة، في كل من العراق وأفغانستان، إلى جانب عدد من الكوارث وجبهات القتال الأخرى الموزعة على نطاق العالم بأسره. ومن المؤكد أن تزيد الأزمة المالية الراهنة، هذا الإرث سوءاً. وختاماً، فما أوضح دروس التاريخ! أولها: أن النهوض الاقتصادي المؤدي إلى الكوارث والأزمات المالية الاقتصادية، مثل الأزمة التي نعيشها اليوم، عادة ما ينتهي إلى إثارة القلاقل والاضطراب السياسي. وتصح هذه الحقيقة بالذات فيما لو اقتصر هذا النهوض على فئة اجتماعية ضيقة ومحدودة على حساب غالبية المجتمع، على غرار ما تحقق للبارونات اللصوص في الماضي، ولكبار مسؤولي وتنفيذيي وول ستريت اليوم. ثانيهما: أن الساحة السياسية لا تخلو دائماً من أولئك العازمين على اقتناص الفرص واستثمار الشعور العام بالإحباط واليأس بين غالبية المواطنين. ولنذكر هنا أن أهم العوامل التي أدت إلى فوز أوباما بتلك الأغلبية الكبيرة على منافسه الجمهوري، لها صلة قوية بشعور غالبية الأميركيين بأن أوباما -وليس جون ماكين- هو الأكثر قدرة وكفاءة للتصدي لمهمة إدارة الأزمة المالية الاقتصادية. وبالنظر إلى الشعبية الواسعة التي يتمتع بها الرئيس المنتخب أوباما، داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها، فإنه لا شك في أحلى أيام شهر عسله السياسي. ولكن الخوف ألا يطول هذا الشهر، ما لم يجرؤ على اتخاذ القرارات الصعبة والمثيرة للجدل والخلاف، في سبيل التصدي لأكبر تحد اقتصادي مالي يواجهه العالم الصناعي المتقدم في تاريخه الحديث، منذ أيام الكساد العظيم الذي ضرب العالم في ثلاثينيات القرن الماضي.