يظن كثيرون أن الصمت في أغلبه هروب واستكانة، ومن ثم فإن حظ المقاومة فيه ضعيف إن لم يكن منعدماً. فالمعنى الذي يأتي إلى الأذهان من الوهلة الأولى حين تسمع كلمة مقاومة ينصرف دوماً إلى أمر مرتبط بالحركة أو الفعل، الذي يتم توزيعه إلى العنف بشتى درجاته، أو إلى اللاعنف الإيجابي الذي يعتمد على وسائل عدة من الضغط والاحتجاج المدني. لكن في حقيقة الأمر فإن الصمت يمكن تحويله من طاقة سلبية تنطوي على الاستسلام أو الاستلاب أو الترقب أو اللامبالاة إلى فعل مقاوم، قد لا يقل في بعض الحالات عن النضال المسلح أو الاحتجاج المدني القوي. وهناك حالتان أساسيتان كان فيهما الصمت مقاومة جلية بكل المقاييس. الأولى ترتبط بصمت المحكومين عن التجاوب مع نداء السلطة المستبدة لهم، حين تسعى إلى حشد الجمهور حول خطابها وبرامجها، لاسيما في اللحظات الحرجة التي تجد فيها هذه السلطة نفسها مضطرة إلى استدعاء الناس بعد طول تغييب وتذكرهم بعد طول نسيان، وذلك وقت أن تكون مهددة بالانهيار أو الرحيل، أو تكون معرضة لضغوط قوية تجعلها تتآكل، وتشعر أن وضعها قد بات في مهب الريح. وتتوقع السلطة في هذه الحال أن الناس ستستجيب لها طواعية، إما خوفاً أو طمعاً، وقد تدفع التابعين لها للنزول إلى الشارع لتحفيز الجماهير الغفيرة على الخروج من الصمت والترقب، والانخراط في مساندة النظام الحاكم. فإذا رد الناس بالصمت، وأداروا ظهورهم للسلطة، وأشعروها بأنها باتت مجردة من أي شرعية، وأن الشعب يرفضها كلية، فإن سلوكهم هذا ينصرف إلى المقاومة، لاسيما إن حدث شعور جمعي بهذا الموقف، ووصلت فحوى الرسالة إلى السلطة وأتباعها. وتزداد فاعلية هذا الموقف إن كانت السلطة مقدمة على خطوة تحتاج فيها إلى موافقة الناس عليها، لاسيما أوقات الاستفتاءات على شخص الحاكم أو لحظة تمرير قوانين وخطط وبرامج معينة، أو وقت يشعر فيه من بيدهم الأمر أن هناك حالاً من الرفض المكتوم لسياساتهم، أو حتى وجودهم على قيد الحكم. ففي مثل هذه الظروف تلهث السلطة وراء النداء على الناس، فإن أبوا واستعصموا بالصمت، فإنها تنزعج انزعاجاً شديداً، وتعاود النداء عبر آلتها الدعائية، فإن جاء الرد على حاله الأولى، لا تجد السلطة بدّاً من تقديم تنازلات متدرجة، تصب في نهاية المطاف في مصلحة الشعب، فإن استهان الناس بهذه التنازلات ولفظوها، فقد لا يكون أمام هذه السلطة من طريق سوى الاستعداد للرحيل، أو أن تفقد أعصابها وتنزلق إلى ممارسة عنف مفرط ضد الشعب فتدفعه إلى مقاومتها بغير الصمت، ومن ثم تدق المسمار الأخير في نعشها، لاسيما إن ظهر بديل في اللحظة المناسبة لم يقابله الناس بصمت، إنما التفوا حوله وباركوه وبحت أصواتهم في مساندته. أما الثانية فقد سطرها مناضلون سياسيون عبر تاريخ الإنسانية المديد، حين التحفوا بالصمت وقت أن كان أعداؤهم يطلبون منهم التحدث. وقد حفل أدب السجون، وحوت مذكرات السجناء من مختلف الانتماءات السياسية بالعديد من القصص التي تبين كيف تحمل بعض المعتقلين التعذيب الجسدي الوحشي في سبيل حماية أسرار التنظيم السياسي الذي يتبعونه، وستر ظهر رفاقهم الذين يشاركونهم الكفاح. وقد اعترف السجانون والجلادون أنفسهم بقدرة هؤلاء المحبوسين والمعتقلين والسجناء على تحمل أشد صنوف التعذيب، وتضحية البعض منهم بأنفسهم في سبيل حماية الآخرين، في ظل حرصهم على استمرار راية النضال مرفوعة، وفي ظل كراهيتهم العميقة للمستبدين وجنودهم، وهي الكراهية التي تمد المعذبين بقدرة فائقة على تحمل الآلام بصمت. وعلى سبيل المثال فمن يطالع الأدبيات التي أنتجتها بعض التنظيمات السياسية المطاردة في الحياة العربية سيكتشف كيف لعب الصمت دوراً مهماً في حمايتها، والإبقاء على جذوتها مشتعلة. فمذكرات المعتقلين في سجون عبدالناصر، التي عرفت طريقها إلى المطابع، وما سجله الشيوعيون في العراق من وحي أيامهم المريرة في سجون "البعث"، وما سطره السجناء السياسيون العرب في كل مكان وزمان، أعطى جميعه الصمت وضعاً متقدماً فاق في كثير من الأحيان ما يمكن أن يفعله الكلام، وتنتجه الثرثرة، ويؤدي إليه الاعتراف الطوعي عند الخائفين أو القسري عند من لم يتحملوا التعذيب، من حصول بعض السلطة المستبدة على معلومات تفيدها في القضاء على كل مقاوم لاستبدادها. وفي الكثير من الأديان والفلسفات يأتي الصمت كنوع من العبادة، لأنه يساعد على مقاومة شرور النفس، ويساهم في تعزيز التحلي بالصبر والسكينة. فالصمت باب من أبواب الحكمة، فهو ذلك الشيء الهين اللين الذي لا يكلف الجسد والنفس تعباً ولا نصباً، وهو عبادة من غير عناء، وزينة من غير حلي، وهيبة من غير سلطان، وحصن من غير حائط، وفيه ستر للعيوب وجلب للحسنات، وكف عن الإساءة لأحد. والصمت يمنح الإنسان فرصة للتفكير العميق، وقد يساعده في السيطرة على من أمامه بغير كلام، ويمكن أن يبعث رسالة إلى الآخرين بأنهم واقعون تحت هجوم مستتر من قبل الصامت، وهو يولد الاحترام في المواقف الصعبة، وينال من أسلحة الغير وقت الشجار من غير كلفة ولا عناء. والتدبر الصامت هو نوع من الصلاة، فها هو القرآن الكريم يبين في الآية السادسة والعشرين من سورة "مريم" أنها -عليها السلام- كانت تصوم عن الكلام عبادة لله سبحانه وتعالى: "فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيّاً"، ويطلب القرآن من المؤمنين ألا ينخرطوا في ثرثرة تافهة ممقوتة: "وإذا مروا باللغو مروا كراماً" ويقول للمؤمن أيضا ".. وأعرض عن الجاهلين". وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يجعل أحد شروط الإيمان بالله واليوم الآخر أن يقول المرء خيراً أو ليصمت. وتعطي المسيحية الصمت مكانه في العبادة أيضاً إذ يقول المزمور 131: "لقد هدأت وسكنت نفسي.. ترجي الرب من الآن وإلى الأبد". وبعض الطقوس الروحانية الأرضية تعلي من قيمة الصمت ومكانته. فـ"اليوجا" التي تقوم على تحرير النفس من ارتباطها بالمادة، وهي قاسم مشترك في بعض ديانات شرق آسيا، تجعل الصمت جزءاً أصيلاً من تكوينها وجواهرها، إذ تطلب ممن يؤديها أن يسكت صوت المتعدد الخارج من الجسد والنفس والغريزة والرغبة والفعل، حتى يتسنى له أن يسمع صوت الواحد في داخله، وتقول للواحد منا: "إذا استطعت إسكات كل شيء فسوف تسمع من أعماق الصمت في داخلك صوت الواحد... عليك بالإصغاء إلى صوت الصمت". إن الصمت من الناحية العلمية هو الغياب الكلي أو النسبي للصوت المسموع، والبيئة إن كانت على مستوى صوت أقل من عشرين ديسيبل (وحدة قياس الصوت) فإنها تكون صامتة. أما من الناحية العملية فإن الصمت يتوزع على سلوكيات تتراوح بين الخضوع والخنوع وبين التفكر والتدبر بغية تطهير النفس أو إصابة العدو بالحيرة أو الاستعداد للانقضاض عليه. والصمت الذي ينصرف إلى الاستسلام ممقوت عند الناس، ومستهجن عند من يريد لنفسه موقعاً على خريطة الدنيا، ومن ثم نجد النداءات والتساؤلات التي تقول للمسلمين وقت المحن: "إلى متى الصمت؟" و"يا أمتنا لماذا الصمت؟"، وعلى سبيل المثال رفع الكثيرون وقت معركة الصور الدانمركية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم شعار: "معاً لكسر حاجز الصمت"، وهو الشعار والنداء الذي يلحق بكل النكبات والأزمات التي تمر بها الأمة. ومن هنا فإن الصمت الذي يشكل نوعاً من المقاومة ليس أي صمت، بل الصمت الإيجابي الذي يقلق الجندي في فرشه، والسلطان في عرشه، ويطلق الطاقة الروحية من عقالها، ويهذب شرور النفس، ويعطي الإنسان وقتاً جميلاً للتدبر في خلق الله وحكمته، ومن ثم امتلاك القدرة على الصبر والتجلد... والمقاومة.