تحقيق المصالحة بين حركتي "فتح" و"حماس"، ومن ثم بين "سلطتي" رام الله وغزة، هو السبيل الوحيد لإبقاء قضية فلسطين حية وتجنب نهاية أليمة قد تنتظرها في حال تكريس الانقسام الراهن استراتيجياً واستمراره لفترة طويلة. ولذلك فقليلة، وربما نادرة، في تاريخ هذه القضية الاجتماعات العربية الجامعة التي ألقيت على عاتقها مسؤولية في مثل خطورة وصعوبة المهمة التي يحمل أعباءها وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الطارئ المرتقب بالقاهرة. وإذا كان الاجتماع مخصصاً للقضية الفلسطينية بجميع جوانبها، فقد بات واضحاً أن كل ما يتعلق بهذه القضية يتوقف على تحقيق المصالحة. فلا جدوى من بحث ما يسمى بعملية السلام الفلسطينية -الإسرائيلية، مثلاً، بدون إحراز تقدم في اتجاه هذه المصالحة. ولأن الوضع لم يعد يتحمل أي التفاف عليه، ينبغي أن تضعه الأمانة العامة للجامعة العربية واضحاً شفافاً أمام الوزراء، وبكل ما ينطوي عليه من تبعات، وأهمها أن فشل اجتماعهم في إيجاد صيغة للحوار وأجواء ملائمة له، يعني إسدال الستار على القضية التي لازمت النظام العربي الرسمي منذ تأسيسه وظلت هي مسألته المركزية على مدى أكثر من نصف قرن. وحين يكون الخطب على هذا النحو، فالمفترض منطقياً أن ينشغل الاجتماع بالعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وليس بالتحقيق فى المسؤولية عن تعطيل الحوار الفلسطيني الذي كان مقرراً أن يبدأ في القاهرة الأسبوع الماضي. فالانشغال بتحديد الطرف المسؤول لإلقاء اللوم عليه ليس فقط ترفاً لا محل له في لحظة مأساوية، لكنه أيضاً تكريس للانقسام لن يغفره التاريخ لمن يقدم عليه أو يشارك فيه. كما أن المسؤولية عن تعطيل الحوار ليست محصورة في طرف واحد، بخلاف ما أعلنه الرئيس محمود عباس في خطابه الذي ألقاه قبل أيام في الذكرى الرابعة لرحيل الزعيم ياسر عرفات. وليت "أبو مازن" يراجع موقفه خلال الأيام الباقية قبل الاجتماع العربي الطارئ لكي يذهب إليه بصفته رئيساً للفلسطينيين جميعهم ومسؤولا أولا عن قضيتهم أمام التاريخ، إن لم يكن أمامهم، وساعياً بالتالي إلى جمع شملهم وتجاوز خلافاتهم من أجل القضية التى يحمل أمانتها. والأمل كبير في أن يعود الرجل، الذي يعتز كثير من العرب بتاريخه الوطني النظيف، إلى هدوئه المعهود قبل الاجتماع المرتقب ويتجاوز الانفعال الذي دفعه للمطالبة بأن يسعى هذا الاجتماع إلى لوم الطرف المسؤول عن تعطيل الحوار الفلسطيني. فهو يعرف، بحسه الوطني وليس فقط بخبرته الطويلة، أن توجيه اللوم ضد حركة "حماس" لا يضع حدا لتعطيل الحوار، ولا يفيد حركة "فتح"، ولا ينقذ الوضع الفلسطيني، وإنما يكرس الانقسام ويجعل المسافة بين الضفة وغزة أبعد من أن تقاس بالكيلومترات الأرضية. وهذا ما ينبغي أن تدركه أيضاً مصر راعية الحوار الفلسطيني، التي بذل فريقها المكلف بهذه الرعاية جهداً خارقاً على مدى أكثر من ثلاثة أشهر منذ أن بدأ في إجراء اتصالات ثنائية مع الفصائل المختلفة كل على حدة. فهذا الجهد، وما سبقه على مدى عدة أشهر أخرى، مازال قابلا لأن يثمر بشرط وضع حد للغضب الذي ظهر في بعض التصريحات الصحافية المنسوبة إلى مصادر مصرية كلها مجهولة، باستثناء واحد جاء على لسان رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشورى سفير مصر السابق لدى إسرائيل محمد بسيوني. ولعل أخطر ما جاء في هذه التصريحات ليس فقط اتهام حركة "حماس" وحدها بالمسؤولية عن تعطيل الحوار، ولكن أيضاً تفسير موقفها بإرجاعه إلى ما أُطلق عليه "أجندات إقليمية". وأخطر ما في هذا التفسير هو أنه محمّل ضمنياً بمعنى يفيد أن الحوار الفلسطيني ليس ممكناً لأن قرار حركة "حماس" ليس بين يديها، وأن "أجندتها" بالتالي إقليمية وليست وطنية! وفي هذا التفسير من الخطأ ما لا يقل عما فيه من خطر، لأنه يقيس الأزمة الداخلية الفلسطينية ضمنياً على الأزمة اللبنانية. وفي هذا القياس كثير من المبالغة، رغم أن حركة "حماس" ليست بعيدة عن التحالف الراديكالي الذي يجمع إيران وسوريا وقوى لبنانية. لكنها ليست في قلب هذا التحالف، بخلاف "حزب الله" الذي تربطه بإيران علاقة عقائدية مذهبية استراتيجية، وبسوريا علاقة سياسية عسكرية. ولو أن الحديث في هذا السياق عن حركة "الجهاد الإسلامي"، لربما اكتسبت حكاية "الأجندة الإقليمية" المفسرة لتعطيل الحوار الفلسطيني صدقية أكبر. لكن حركة "حماس" ليست مثل حركة "الجهاد"، ناهيك عن أن تشبه "حزب الله". وإذا كان طبيعياً أن تحرص "حماس" على علاقاتها القوية مع سوريا وإيران، فليس من طبائع الأمور أن تجعل هذه العلاقات مقدمة على مصلحتها الذاتية وموقعها في الساحة الفلسطينية، وأن ترفض بالتالي حواراً يمكن أن يحقق خيراً لها وللقضية التي تستمد شرعيتها منها. ولا يعني ذلك استبعاد أي دور لسوريا وإيران في تأزيم الوضع الفلسطيني، سواء من حيث المبدأ أو في الواقع. فالقضية الفلسطينية، بالنسبة إليهما ليست أكثر من ورقة إقليمية يستخدمها كل منهما في إدارة صراعاته ومساوماته مع أميركا والغرب من ناحية ومع غيرهما من القوى الإقليمية من ناحية أخرى. كما أن دورهما السلبي في تحويل الأراضي المحتلة إلى ساحة لتصفية حسابات إقليمية ودولية ليس خفياً. لكن هذا لا يعني، في المقابل، أن كل خلل في الوضع الفلسطيني لابد أن يكون نتيجة "أجندة إقليمية". فالعوامل الداخلية المنتجة للاختلالات كثيرة، وبعضها يكفي لإنتاج ما هو أشد فداحة من تعطيل الحوار الفلسطيني. لذلك يبدو تفسير هذا التعطيل بارتهان حركة "حماس" لسوريا وإيران استسهالا في معالجة معضلة بالغة الصعوبة. ولأنها معقدة بالفعل، فالأكيد أن إصرار السلطة في رام الله على عدم إطلاق سراح معتقلي حركة حماس (616 معتقلا وفق ما أُعلن) ليس هو السبب الوحيد لاعتذارها عن المشاركة فيه. والأرجح أنه عامل مكمل لعوامل أخرى أهمها قلق الحركة من الصيغة التي رأتها مصر مناسبة لإطلاق الحوار، ولكنها لم تعتبرها نهائية أو محددة لنتائج هذا الحوار. وقد لعبت مشكلة ضعف الثقة، هنا، دوراً كبيرا في مفاقمة قلق حركة "حماس" من الذهاب إلى حوار على أساس ورقة تخشى أن تتمسك بها حركة "فتح" حتى النهاية، رغم أن مصر لم تر ما يمنع تعديلها ولكن خلال الحوار وليس قبله. وقد حددت ورقة أعدتها "حماس" في الشهر الماضي أهم مخاوفها من الصيغة المصرية التي كانت آخذة في التبلور حينئذ. وأهم هذه المخاوف أن تكون حكومة التكنوقراط الانتقالية أداة بين يدي القوى التي تعتبرها مناوئة لها في حركة "فتح"، وأن يؤثر ذلك في عملية إعادة بناء الأجهزة الأمنية على نحو ينتهي بإضعاف نفوذ حركة "حماس" وبتحجيمها. ورغم أن مصر أكدت أن الصيغة التي أعدتها، من واقع التشاور مع مختلف الفصائل، قابلة للمراجعة خلال الحوار، لم يكن هذا كافياً لتطمين "حماس". لذلك ظلت خشيتها من (وضعها أمام موقف مصري -عربي دولي مؤيد لهذه الصيغة، وبالتالي الضغط عليها للقبول بها) محددة لسلوكها السياسي. ولذلك أخذت تقدم رجلاً وتؤخر الأخرى إلى أن حسمت أمرها وقررت عدم المشاركة في الحوار. ويعني ذلك أن ضعف الثقة المتبادلة بينها وبين مصر ساهم بمقدار وفير في دفعها إلى هذا القرار. ولا علاقة لذلك بأي "أجندات إقليمية"، لأن هناك ضعفاً في الثقة أيضاً بين القاهرة وحركة "فتح" وإن بدرجة أقل. وقد ظهر ما يدل على ذلك عندما قبلت مصر في الشهر الماضي اقتراحاً من حركة "حماس" بعقد لقاء ثنائي مع حركة "فتح" قبل أن يلتئم الحوار الجماعي. فلم تكتف حركة "فتح" برفض هذا اللقاء، وإنما عبر بعض قادتها عن قلق من أن تكون القاهرة مستعدة للاقتراب أكثر من حركة "حماس". ولذلك، سيكون اجتماع وزراء الخارجية العرب أقرب إلى النجاح بمقدار ما يتمكن من إيجاد صيغة تحتوي مخاوف حركة "حماس" دون أن تثير قلق حركة "فتح". وقد تكون هذه الصيغة صعبة فعلاً، ولكنها ليست مستحيلة.