هذا هو الانتقام الجميل من الظلم العالمي. أبناء وأحفاد مُزارع نازح من قرية فلسطينية محتلة يرتقون التخوم المتقدمة للعلوم العالمية. رأيت ذلك رؤيا العين والقلب في "مؤتمر تكنولوجيا النانو" الذي عقد في الأسبوع الماضي في العاصمة الأردنية عمّان. أشرف على عقد المؤتمر منير نايفة، أستاذ الفيزياء في جامعة "إيلينوي" بالولايات المتحدة، وأول من تحكّم بتحريك الذرّات في تاريخ العلم. سجّلت هذا الفتح العلمي موسوعتا "بريتانيكا" البريطانية، و"ماغروهيل" الأميركية في ملحقيهما لعام 1979. وكان ذلك إيذاناً بميلاد "تكنولوجيا النانو"، التي ترويها قصص الخيال العلمي عن سفن صغيرة يحملها تيار الدم في جسم الإنسان، حيث تجري عمليات جراحية في القلب أو الدماغ. ولا تشبه الحاويات التي تُجرب الآن على البشر تلك السفن الخيالية، إلاّ أنها تحقق أحلامها في نقل عقاقير تدمر الخلايا السرطانية، أو تُطلق إشعاعات ضوئية تحرقها من دون الآثار الجانبية المضرة لطرق العلاج الحالية. و"تكنولوجيا النانو" التي تعتبر مفتاح التطورات الكبرى في القرن الحالي تستمد اسمها من وحدة "النانو" القياسية. وتعادل "النانو" جزءاً واحداً من مليار جزء من المتر. وينتج التعامل مع أبعاد تقل عن مائة "نانو" وظائف، وظواهر، ومواد، لا وجود لها في الطبيعة، أي يحدث ثورة علمية تكنولوجية تفوق الثورة الإلكترونية، ويطرح تحديات لا سابق لها في السياسة والاقتصاد والفلسفة. عكس ذلك مؤتمر عمان الذي شارك فيه علماء وتكنولوجيون ورجال أعمال من داخل وخارج البلدان العربية. وعُرضت في المؤتمر مشاريع بملايين الدولارات، معظمها من الولايات المتحدة، حيث تبلغ الموازنة الكلية لبحوث "تكنولوجيا النانو" للعام المقبل مليارا و500 مليون دولار. والسيادة في تكنولوجيا النانو لعلماء الفيزياء والهندسة الكهربائية والإلكترونية، الذين يعملون على مستوى الذرات والإلكترونات. يفسر هذا مشاركة أبناء منير نايفة الثلاثة في مؤتمر عمان: حسن، وهو دكتور في علوم الكومبيوتر من "معهد ماساشوستس للتكنولوجيا" (MIT) والباحث في المختبر المركزي لشركة "آي بي إم" IBM، وقد عرض في المؤتمر مشروعه لتطوير أصغر "ترانزستر" في العالم. وقد ندرك حجم الثورة التي يحدثها أصغر ترانزستر في حياة البشر إذا علمنا أن "الترانزستر" الذي يُعتبر أعظم اختراع في القرن العشرين يدخل في تركيب جميع الأجهزة الحديثة، من الهاتف الجوال والتلفزيون وحتى الكومبيوتر والطائرة. أما الابن الثاني عمّار، فهو دكتور في الهندسة الكهربائية من جامعة ستانفورد، وقد ساهم بتأسيس شركة Z-RAM لصناعة الذاكرة الإلكترونية، والتي نالت أخيراً جائزة "المنتدى الاقتصادي العالمي". و يرمز حرف Z إلى الصفر، ويشير إلى خلو الذاكرة الجديدة من "المكثف" الكهربائي الذي لا تستغني عنه الأجهزة الحالية. ويحل هذا الابتكار إشكالات تهدد بتعطيل "قانون مور" الشهير، الذي ينص على مضاعفة قوة الأجهزة الإلكترونية بمعدل ضعفين كل سنتين، ويُعتبر أساس الثورة المستمرة في الصناعات الإلكترونية منذ نحو نصف قرن. ويختص بذاكرة "النانو" الابن الأصغر أسامة، الذي حصل على الدكتوراه في العام الماضي من "معهد ماساشوستس للتكنولوجيا"، ويعمل فيه حالياً. عدد الأوراق العلمية المنشورة لأسامة 14، وهو كشقيقيه في عمر العشرينيات، إلاّ أن أداءه الواثق المرح ساعده على تقديم بحثه من مستوى أكاديمي رفيع. استّهل أسامة حديثه، قائلاً إنهم كانوا يسألونه سابقاً ما إذا كانت له علاقة بأسامة بن لادن، والآن يسألونه: "ماذا؟.. أوباما"؟! وأثار أسامه الضحك بتعليقه على العالم الإيطالي "كارل سشانا" الذي عرض في المؤتمر مصابيح إضاءة "نانوية". تُصنع هذه المصابيح بأشكال جمالية مختلفة من لدائن "البوليمر"، وهي لا تنكسر كالمصابيح الزجاجية، ولا تحرق اليد مثلها عند اللمس، لأن 15% فقط من طاقتها الكهربائية تُستهلك في الحرارة، على عكس المصابيح الزجاجية التي تستهلك 15% فقط من طاقتها في الإضاءة. ويتوقع العالم الإيطالي أن تقضي هذه المصابيح التي تدوم عشر سنوات على صناعة المصابيح الكهربائية. أطلق أسامه على هذا "الأسلوب النظيف" في القضاء على المنافسين اسم "دون كورليوني" بطل فيلم عصابات المافيا المشهور "العرّاب". واستشهدتُ به في حديثي في المؤتمر عن "تعريف الجمهور العام بتكنولوجيا النانو". وهل يمكن بدون "طريقة دون كورليوني" كتابة مقالة صحفية عن النانو؟.. حدث ذلك في أول تقرير كتبته عن تكنولوجيا النانو عام 1994، وكان موضوعه صورة القلب وفي داخله حرف P التي رسمها منير نايفة بالذرات. كانت المجلة العلمية "نيوساينتست" التي نشرت الصورة على غلافها قد ذكرت أن الحرف يرمز إلى كلمة "فيزياء" بالإنجليزية physics وذلك تعبيراً عن حب نايفه للفيزياء. وعرضتُ في تقريري تفسيرات مختلفة لحرف P الذي يراه بعض العلماء العرب تعبيراً عن حب نايفه لوطنه "فلسطين" Palestine، وذكرتُ أن أصدقاء نايفه، الذين يخشون أن يحرمه هذا التفسير من "جائزة نوبل" يرجحون أن P هو الحرف الأول من اسم صديقة نايفه أيام الدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت! وفزع نايفه عندما سمع بذلك، وقال لي إنه يخشى حكاية الصديقة هذه أكثر من فقدان جائزة "نوبل"، فهو متزوج من فتاة "بنت بلد من طولكرم" اسمها "هتاف"! هذه الواقعة الظريفة يرويها منير نايفه في مذكراته التي تصدر في العام المقبل بالعربية والإنجليزية بعنوان "رحلتي في عالم النانو". ولن يساعدني هنا "دون كورليوني" في سرد قصص نحو عشرين عالماً من أبناء وأحفاد المزارع حسن نايفه وزوجته خضرة النازحين من قرية "شويكة" في فلسطين المحتلة. بدأت القصص بكفاح الأبوين، اللذين لم يدخلا المدرسة، لكنهما استماتا من أجل تعليم الأبناء. هذا الكفاح الذي رسم خريطة "النزوح" الطويل بحثاً عن مدارس في فلسطين والأردن ولبنان، حسم مصير الأولاد. الابن الأكبر علي، الذي شق طريق العلم لأشقائه نال خلال سنتين البكالوريوس في علوم الهندسة بجامعة "ستانفورد" عام 1959، والماجستير في السنة التالية 1960، والدكتوراه عام 1961. هذه الأرقام القياسية المتحققة في واحدة من أرفع الجامعات العالمية لا سابق لها، ولا يضاهيها سوى أداء أصغر الأشقاء تيسير، الذي بدا ميئوساً منه خلال سنوات "النزوح" بحثاً عن المدارس، لكنه شرع فجأة في تحقيق معجزات دراسية، ونال البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه في الهندسة الصناعية من "معهد فرجينيا للتكنولوجيا"، وسجل عدة براءات اختراع، ويشغل حالياً منصب مدير مركز الفضاء في ولاية كليفلاند. وأبناء السلالات العلمية يتعلقون تعلقاً غريزياً بالأوطان. علي نايفه ساهم بتأسيس جامعة اليرموك بالأردن، وشقيقه الأوسط عدنان، أستاذ الهندسة الفضائية في جامعة "سينسيناتي" يرأس حالياً جامعة "الزرقاء" الأردنية... وعشرات المشاريع العلمية لأبناء نايفه في البلدان العربية. وهل هناك تعلق أكثر حميمية من اختيار الأحفاد، الذين ولدوا وترعرعوا في الخارج زوجات من قراهم ومدنهم الفلسطينية؟.. ما تفسير ذلك، ولماذا أبتهج بسلالة علماء عرب "نازحين"؟.. هل هو الانتقام الجميل الذي تسجله النفس الإنسانية في قلب الظلم العالمي؟